ما من شخصية مزدوجة ومضطربة ومتنازعة مثل الشخصية ’’ المتخلفة ’’ عقلا وثقافة وسلوكا ’ فهي تعاني تناقضا صارخا بين حداثة الحياة وحالة الواقع المعاش في نمط التفكير والخطاب اليومي ’ الاقرب الى التخلف منها الى الحداثة والتقدم ’ فهي في المظهر العام ما تزال تتشبث بالتراث في الملبس والمأكل واللغة والتعاويذ السلوكية ازاء محيطها ’ ولكنها تعجز في تدجين اطفالها حينما يدخلون مدارس خاصة ’ محاولة قدر الامكان حصرهم في نمط ثقافي في المدارس المذكورة ’ وإبعادهم من لوثة الحداثة الغربية المنحلة ’ خاصة الطبقة الوسطى والتكنوقراط ’ فاغلبهم ’ لا يمانع في إقفال جمجمته ودماغه عن اشياء كثيرة ’ ولكنه يدرك ان اطفاله بدون معرفة وتطور حداثي النزعة والاتجاه فانه لن يحصل على مساحة من سوق العمل والارتقاء المهني. ويسقط اطفال هؤلاء الممزقون بين ثقافتين ’ في الانتقائية بميلهم الاكثر نحو الحداثة ’ ولكنهم لا يتورعون في نقد نمط التخلف في كل شيء مبررين تلك المواقف بأننا لا يمكننا ان نفرط في هويتنا ’ فيما ان الهوية اللغوية والثقافية تتمزق كل يوم ببطء ’ متوهمين أن الهوية في ذاتها في شعائر الدين ومناسك التقاليد المحافظة وحدها ’ فيما نجد الملابس وصيغ الحياة في المجمعات التجارية والفاترينات وبيئتها تنتمي للحداثة كسلعة والليبرالية كفكر ونمط حياة ومنهج ’ فكل الوسائل المستخدمة في عصرنا لا تنتمي لعصر الابل والنوق والخيام ’ وليس لها علاقة بتلك الثقافة التي يحاول البعض تثويرها وتطويرها من الداخل بعملية قيصرية ’ فالى جانب الهواتف النقالة والاتصالات الدولية والتواصل العالمي والسفر والماركات المسجلة والسيارات الحديثة والبيوت العصرية ’ فاننا لن نجد في نموذجها الا اسوارا مغلقة وجدرانا رفيعة ’ تكشف عن روح محافظة قلقة من الاخر ’ وتخاف تجاوز محنتها الثقافية المتجذرة في الموروث التاريخي مثل شخصية قومية التفكير في عصر اممي ’ لا يرى ’’ الوطنية ’’ في القرن الواحد والعشرين الا من منظار دكان قرية صغيرة بنزعته الفلاحية ’ مثل موظف محدود التفكير يهيئ ابنه لسوق ضيقة ما عادت المهن القديمة تناسبها فيما صارت المهن العابرة للقارات والتقنيات المتقدمة سوقها عالمي وثقافتها مفتوحة ’ كالزواج المختلط عرقيا ’ فيما نحن ما زلنا نفكر بافق ضيق يخاف التغيير ويخاف ان تمحو هويته ولغته دون ان يتم استفتاء التاريخ في حقه بالاختيار. الشخصيات المرتعبة من التغيير لا يمكنها ايقافه ’ فتطرح نفسها وكيلا ومدافعا عن التاريخ القادم ’ فلا يحق لها التفكير والوعظ المتوهم والبكائية على جيل من حقه ان يحدد هويته ’ ثقافته ’ نمط عيشه ومهنته ’ حدود دولته وعائلته. لابأس ان ترتدي الفتاة الجينز تحت العباءة السوداء ولا بأس ان تتعطر امرأة منقبة بعطور باريسية تفوح منها رائحة امرأة باريسية حقيقية ’ وليس انثى متخلفة بعقلها وثقافتها وروحها ’ والاغرب انك ستصادف في الحياة اليومية تلك الانماط المتخلفة في النساء والرجال معا ’ فهم يشترون ويتبادلون كل السلع الغربية الحداثية من اكسسوارات واحذية وشنط ’ هي جيمعها ابنة للغرب المباح والحر والمفتوح ومرجعيتها هو الغرب الحداثي بحراكه المستمر وبديمقراطيته المتطورة وبموضته المحمومة بالجنون ’ فلماذا تصبح تلك الحداثة حياتهم ولا يرفضونها تماما و يتمسكون بثقافة الماضي وانماطه ’ بدلا من التبجح بالقيم والتقاليد في مثل هذه الحالة ؟ لماذا لا ترتدي المرأة ملابس والدتها وجدتها وتمارس طقوسها ’ بعد ان تعلمت بثقافة الغرب وشّكل لها ذلك الغرب الاخر ينبوع ثقافة ومعرفة ومصدر إلهام ’ فالغرب قبلة تلك الطبقة ومعبدها الدائم ’ ولكنها حينما تعود الى البلاد ’ تنكمش خوفا من سطوة التقاليد’ فكل شخص يخاف ويهاب من الاخر’ يتوجس منه ’ في بيئة موبوءة بالشك. الانماط الليبرالية التي تواجهنا قد نراها في شخصية متخلفة في عقلها’ وهي تركب سيارة مصنوعة في الغرب وتستخدم في مكتبها احدث الاجهزة القادمة من خصومه الحضاريين ’ الذين يناطحونه في بيته ومكتبه ومخازن سلعه ’ ينافسونه في حضارة ضائعة تحاول الصمود في وجه طغيان عاصفة التحديث المتسارع’ القادم من الدول المتطورة وليس من صحراء قاحلة’ تعبر عن ثقافة وانماط متخلفة مستقبلها الضمور والتآكل حتى وان طوقنا المجتمع بالحديد والمتاريس. اذ سيأتي يوما وتأتي لحظة مهولة بانفجارات ليس ديمغرافية وثقافية وحسب بل وانفجارات ذهنية ومفاهيمية’ لا يمكن ان تخضع العقل لاسئلة الفضول الاولى بمجرد الانصياع للتفكير العجزي والطقوسي الخرافي’ المسكون بثقافة الخوارق والبديهيات والمسلمات. مثل تلك’’ الانماط الليبرالية المتخلفة’’ مسجونة في تابو الموروث’ فتردد مفردة الاصالة والاصول’ في عصر تنهار فيه مثل تلك الثقافات المتكلسة’ افكار تعيش في زمن ماضوي النزعة يتراجع امام الديجيتال بفعل سطوة القوة والدينامية الحياتية’ اردنا ذلك ام لم نرد’ فالمستقبل يتطور هناك خارج عالمنا’’ الاصيل المشبع بالفروسية المزيفة ’’ هذا اذا قررنا ان نعيش داخل التاريخ وليس خارجة. ليس علينا ان ننتظر العيش داخل مقولة يا امة ضحكت من جهلها الامم تحت فلسفة المبادئ والافكار التي توهمنا انها هي ’’ الصحوة والانبعاث ’’ فأي صحوة في عصر الديجيتال الكوني ؟
صحيفة الايام
24 اغسطس 2010