أدخلتكم الأسبوع الماضي في بعض أجواء زيارتي وزميلي إلى أوكرانيا وما شهدنا من عمليات حصاد القمح ورأينا من مزارع تربية الحيوانات. وأدخلنا هذا الحديث إلى أزمة الغذاء العالمية التي ستظل تشغل العالم فترة طويلة قادمة، وإلى أهمية الاستثمار في زراعة القمح والحبوب الأخرى وتربية الأبقار والمواشي وإنتاج العلف باعتبار ذلك ليس الاستثمار الأجدى في ظروف ما بعد الأزمة الاقتصادية وأزمة الغذاء العالميتين فقط، بل ومن أجل توفير الأمن الغذائي لبلداننا بأفضل الشروط الاقتصادية والسياسية. وتساءلنا عما إذا كانت أوكرانيا تساعد على توفير هذه الشروط.
نعود أدراجنا إلى أوكرانيا ثانية. ونبدأ بالخبر عن اجتماع مجلس وزرائها الأسبوع الماضي والذي قرر، بعكس روسيا، التخلي عن فكرة الحد من صادرات البلاد من القمح والحبوب الأخرى إلى الخارج. وكان لهذا الخبر وقعه الإيجابي عالميا. كيف لا وقد كانت في الوقت نفسه نحو 15 سفينة محمَّلة بالحبوب في موانئ أوكرانيا المطلة على البحر الأسود تنتظر الإبحار من عدمه. كيف لا وقد أدى اضطراب أسواق القمح منذ الأسابيع الأخيرة إضافة إلى ارتفاع أسعاره بنسبة تجاوزت 50 % منذ يونيو/ حزيران الماضي والخوف من إمكانية عودة أزمة الغذاء العالمية 2007 – 2008 إلى التوجه نحو الاعتماد المتزايد على منطقة البحر الأسود كمورد لسوق القمح العالمية. أما بالنسبة لبلدان الشرق الأوسط والخليج فيعتبر قمح البحر الأسود أرخص بكثير من إمدادات أميركا الشمالية، وخصوصا أن تكاليف الشحن وحدها تضيف حوالي 60 دولاراً لسعر الطن.
وصحيح أن بعض بلدان الشرق الأوسط عملت على تغيير استراتيجياتها الزراعية لتقليل الاعتماد على واردات القمح، فمشتريات سورية من القمح ستتراجع بحوالي نصف مليون طن نظراً لزيادة إنتاجها خلال العام الحالي بفضل الحوافز الحكومية والظروف المناخية المواتية. وبعد الحديث السابق عن احتمال تخلي السعودية، تحت مبرر استنفاد موارد المياه النادرة، عن خطة دعم زراعة القمح التي استمرت ثلاثين عاما وحققت لها الاكتفاء الذاتي، إلا أن الحكومة السعودية عادت فقررت تقديم الحوافز لزراعة القمح. وبفضل ذلك يتوقع هذا العام أن يرتفع إنتاج السعودية من القمح للموسم الثالث على التوالي. أما إيران التي حققت الاكتفاء الذاتي العام 2004 ثم تراجع إنتاجها بسبب سوء المناخ فقد أعلنت في ابريل/ نيسان الماضي أنها سوف تصدِّر مليوني طن من القمح للإمارات ومصر وعمان بعد توقف دام ثلاث سنوات.
ومع ذلك تبقى حاجة بلدان المنطقة إلى قمح وحبوب أوكرانيا في تزايد. وأثناء زيارته لأبوظبي نهاية العام الماضي قال الرئيس الأوكراني السابق يوشينكو إنه اتفق هناك على بحث فرص استثمار الإمارات في القطاع الزراعي في أوكرانيا. وأشار إلى أن حوالي 40 في المئة من التربة السوداء الخصبة في العالم موجودة في أوكرانيا، حيث الحاجة كبيرة إلى الاستثمار الأجنبي لتنمية القطاع. وزير الزراعة الأوكراني آنذاك أوضح أن الحديث يدور عن زراعة القمح والشعير وزهرة الشمس، مشيرا إلى إمكانية مشاريع مختلفة من استئجار أراض مساحتها 100 ألف هكتار إلى إنشاء مزارع لتربية الحيوانات تضم الواحدة 3000 بقرة.
وفي المعرض الدولي الصناعي الزراعي الثاني والعشرين – أغرو – 2010 تحدث وزير السياسة الزراعية نيكولاي بريسياجنيوك عن مفاوضات جرت بين بلاده والسعودية حول بدء العمل على خطة بين الحكومتين في مجال المجمع الصناعي الزراعي في أوكرانيا. وأشار إلى أن صادرات الحبوب الأوكرانية إلى السعودية ارتفعت إلى مليون طن منذ بداية السنة التجارية الجديدة، بينما بلغ إجمالي واردات السعودية العالمية من القمح العام الماضي 2 مليون طن.
طبيعي أن هناك الكثير من المآخذ على المناخ الاستثماري في أوكرانيا، وخصوصا فيما يتعلق بوضع الأرض وبالضمانات التشريعية والمؤسسية الأخرى. لحد الآن لا يسمح القانون للمستثمر المحلي أو الأجنبي بتملك الأراضي الزراعية، وإنما باستئجارها واستثمارها لخمسة وخمسين عاما. ومع ذلك فهذه الفترة إذا ما اقترنت بالاستثمار في مساحات واسعة من الأراضي تسمح باستخدام التقنيات المتطورة فإنها تَعِدُ بعائد كبير على الاستثمار. لكن هناك مشروع قانون يسمح بتملك الأراضي الزراعية من قبل المواطنين سيتم طرحه في الفترة القادمة سيحسن من ظروف الاستثمار المشترك. كما يجري الحديث عن إمكانية تطوير هذا القانون بالنسبة للمستثمرين الأجانب في المستقبل. غير أن ملكية المشاريع من قبل الأجانب متاحة حاضرا بنسبة 100 %. وحسبما أوضح وزير الزراعة الأوكراني فإن الحكومة تقوم بتنفيذ الالتزامات التي تعهدت بها لإصلاح المجمع الصناعي الزراعي وتحسين المناخ الاستثماري في البلاد. وقريبا سوف يتم إنشاء شركة حبوب ومصرف عقاري للأراضي تابعين للدولة سيتمكن المستثمرون من خلاله من استئجار أراض في أوكرانيا من أجل زراعتها وتصنيعها زراعيا بشكل مشترك.
طبيعة هذه البلاد تزخر بالموارد الطبيعية الغنية وبالكوادر الفنية عالية التأهيل. ولكنها تحتاج إلى توظيف الاستثمارات والتقنيات الحديثة والنو – هاو. عندها سيكون عائد التعاون عاليا جدا.
رغم أزمة القمح والغذاء المتفاقمتين عالميا وشبكة التعقيدات المناخية والسياسية والأمنية والتمويلية إلا أن خيار التعاون المغري مع أوكرانيا أصبح مفتوحا أمام كل بلدان المنطقة ماعدا العراق الشقيق الذي سيبقى معتمدا على قمح أميركا الشمالية وأستراليا، كون الشركات الأميركية تحتكر السوق العراقية منذ العام 2003 لأسباب سياسية بدأت مع الاحتلال المؤثر بشدة على القرار الوطني المستقل.
صحيفة الوسط
23 اغسطس 2010