اعتدنا نحن المثقفين العرب ان نودع ونرثي كل مثقف او مفكر عربي كبير بعبارة: فقدنا مثقفا او شاعرا او مبدعا او مفكرا يصعب تعويضه.. لكن ماذا عن المثقفين العرب الكبار من طراز الفقيد غازي القصيبي الذين ينتمون الى بلدان عربية، كالسعودية، حديثة العهد في التعليم الحديث والتنوير والتحديث والثقافة المعاصرة بل تواجه صعوبات جمة في التنميتين الثقافية والاجتماعية وفي التحديث والتنوير؟
هنا بلا شك فان الخسارة مضاعفة فادحة والعبارة السالفة الذكر التي اعتدنا ابتذال تدبيجها في مستهل مراثينا مع وفاة كل مثقف عربي تتجسد دلالاتها ومعانيها في ابهى صورها في حالة القصيبي من دون ادنى مبالغة، وهو بالضبط ما يمثله ويعنيه غيابه كقامة كبيرة عن الساحة الثقافية السعودية في وقت احوج ما تكون إليه هذه الساحة والى امثاله من القمم الثقافية والفكرية المستنيرة كفارس من فرسان التنوير ومحاربة الجهل والخرافة والغلو الديني، وحيث تشهد هذه الساحة السعودية في ظل عهد عاهلها الحالي الملك عبدالله هامشا معقولا لشحذ الهمم للحرب على الظلام في الساحة.
لقد قرأت كثيرا من المقابلات والتصريحات الصحفية والاشعار للمثقف الكبير وعروض الكتب للفقيد غازي القصيبي لكني لم اقرأ إلا القليل من أعماله الادبية وشاءت المصادفات ان اتعرف قبل ما يقرب من اسبوعين إلى احد البسطاء المقربين منه وروى لي حكايات عديدة من سيرته وعما يمتاز به من علم وثقافة وكيفية تعامله مع مختلف فئات المجتمع بحكمة وروية حتى في أعقد المشاكل التافهة التي تواجه أي انسان في حياته اليومية، كما أهداني معظم أعماله العلمية البحثية والأدبية أتمنى أن تتاح لي الفرصة لقراءتها جميعها وبخاصة انه سبق لي ان قرأت عروضا وتعليقات صحفية عديدة حولها كما ذكرت.
وقبل يومين فقط شاءت المصادفات ان التقي في موعد مع طبيب الانف والاذن والحنجرة الأخ العزيز الدكتور محمود السندي وهو من زملائي في الحياة الجامعية بالقاهرة ولم ألتقه منذ 35 عاما، وكانت فرصة مناسبة لنتجاذب اطراف الحديث لنستذكر بعض أيام حياتنا الطلابية قبل ان اخضع امامه للفحص حتى تطرق حديثنا الى أعمال غازي القصيبي وعلى وجه الخصوص “شقة الحرية”.
ومع ان السندي رأى أن حياتنا الطلابية بالقاهرة خلال النصف الأول من سبعينيات القرن الماضي كانت أزهى من فترة الخمسينيات وهي الفترة التي جرت خلالها وقائع “شقة الحرية” كما كان الفقيد شاهدا عليها بل من رأى انه احد ابطالها، إلا انني خالفته في هذا الرأي واعتبرت قاهرة الخمسينيات لا تقل روعة عن قاهرة النصف الأول من السبعينيات وهذه لا تقل روعة عن الاربعينيات. ولعل العد التنازلي لتغير الاحوال وانخفاض مستوى الروعة والأنس الطلابي انما بدأ منذ اواخر السبعينيات لأسباب سياسية واقتصادية واجتماعية ليس هنا موضع تناولها، ولم يمض سوى يومين فقط على ذلك اللقاء حتى صدمنا وصدم الوسط الثقافي والرسمي في السعودية والبحرين بوجه خاص والعالم العربي بوجه عام بوفاة الفقيد غازي القصيبي وهو كهل لم يكمل سوى سبعة عقود من حياته العامرة بالابداع والعطاء الفكري والاداري والثقافي.
مهما يكن فاننا لا نستطيع ان نقدر عظم الخسارة الفادحة التي يمثلها رحيل القصيبي وهو في هذا العمر المبكر من كهولته (لغويا الكهولة تبدأ من سن الـ 40) إلا إذا ادركنا بالضبط ما يمثله من حالة نموذجية وفريدة من نوعها في عالمنا العربي في القدرة على الجمع بين الابداع والثقافة الرصينة المعمقة وبين الادارة التنفيذية، وهي حالة نادرة في عالمنا العربي قلة من استطاعوا تجسيدها على نحو خلاق كما جسدها القصيبي بحق، على ان نبوغه لا يتجسد في القدرة فقط على هذا الجمع بين الادارة الرسمية من جهة والثقافة والابداع الادبي من جهة اخرى، بل في القدرة على ادارة مؤسسات ادارية رسمية متخصصة ومختلفة بكفاءة مدهشة، فهو من جهة الثقافة والابداع الروائي والشاعر والمثقف السياسي وهو من جهة الادارة الرسمية وزير الكهرباء والطاقة، ووزير الصحة والسفير في البحرين ثم السفير في بريطانيا، ثم وزير المياه وأخيرا وزير العمل.
وفي كل هذه المجالات الثقافية والابداعية الى جانب المجالات الادارية الرسمية المتنوعة اثبت جدارته بامتياز مع ان مؤهله العلمي “علاقات دولية” بعيد عن المجالات الثقافية والادارية على السواء وبخاصة في المجالات الوزارية التي تقلدها.
وما نبوغه وجدارته في كل تلك المجالات إلا بسبب اهتمامه وولعه المنقطع النظير ببناء شخصيته الثقافية بكل ابعادها ووجوههها الثقافية – الابداعية والرسمية والادارية وصرامته مع نفسه في عدم اضاعة وقته بالانغماس في الملذات بكل انواعها ومن ثم انكبابه على العلم والثقافة حيثما اصطاد وقتا ثمينا على هامش عمله الاداري المتشعب داحضا بذلك مقولة ان العمل الحكومي “قاتل” لا يتيح للمثقف او المبدع او المفكر او الباحث فرصة لمواصلة بحثه او ابداعه.
لكن ما سر هذا الاجماع الذي حظي به القصيبي تقريظا في حياته ورثاء بعد مماته من مختلف الاوساط الثقافية والرسمية؟
صحيفة اخبار الخليج
23 اغسطس 2010