كانت سرقةُ فلسطين من قبل رأسِ المال اليهودي قد تركزتْ بشكلٍ خاص في الفلاحين الفلسطينيين، فالأرضُ كانت هي قلبُ الصراع، فانتزعتْ بأغلبيتها عبر حربي 48 و.67
(في الدولة العربية، كان الملاكون العرب يمتلكون 69،77% من إجمالي مساحتها، بينما لم يكن يملك الملاك اليهود إلا 84،0%).
ثم تغيرت النسبة كلياً، وسُرقت كذلك المساكن وحيوانات الزراعة والمعدات والمواد الإنتاجية المختلفة، ولكن بقيت أراض زراعية فلسطينية عديدة منتشرة في الضفة وقطاع غزة وفلسطين 48، وصمدت جماعات عديدة من الفلاحين. ولكن حتى الضفة الغربية المحتلة سُرقت منها أراض تبلغ 52% من مساحتها العامة.
فالفلسطينيون غير قادرين على تشكيل إقطاع بالمعنى الحرفي الزراعي مثل بقية البلدان العربية، وفقدان البلد والأرض يمنعان تشكل دولة، والدولة هي الشكلُ الأساسي للإقطاعِ السياسي في التاريخ العربي الإسلامي.
كان الفلاحون والمنتجون الصغار والبسطاء هم القاعدة الأساسية للاجئين، فحملوا وعيهم الديني إلى الأقطار التي سكنوا فيها، فتداخلوا بسكان الأقطار العربية المتعددة، الذين شاركوهم همومهم، وغدت القضية الفلسطينية قضية عربية، وراحت الشعوب العربية تسهم وتتبرع، والحكومات تستغلُ الهمَ الفلسطيني لأغراضٍ شتى.
هذا التداخلُ العربي الفلسطيني سيكونُ له تطورهُ حسب الصراعات والتطورات داخل كلٍ من هذه الأقطار، وداخل الكتل الفلسطينية المختلفة كذلك، فسوف ينجرفُ العربُ لتأييد القضية الفلسطينية ثم يتراجعون عن ذلك، بسبب أن تنامي الدكتاتوريات النازفة للموارد في الدول العربية وفي الجموع الفلسطينية يخربُ النضالَ المشترك على كلا الجانبين.
إن زمنَ المساعدات الكويتية التي تتشكلُ في فضاءٍ حر نسبي هي غير المساعدات في العراق وسوريا حيث تتشكل عبر نظامين دكتاتوريين، فميلادُ فتحٍ في الكويت، غير إلحاقها بزمني العراق وسوريا. فيتشكلُ هناك في البرلمانية الكويتية شيءٌ من الفضاء العلماني الديمقراطي، في حين يتدهور هذا الفضاء مع بعثي العراق وسوريا. هنا تغوصُ فتح في الإقطاع السياسي ونفعيته وانتهازيته. وهذا غير زمن الفوضوية السياسية في لبنان، هناك زمنيةٌ اجتماعيةٌ لتحولِ فتحٍ من الوطنيةِ التضحوية إلى الإقطاع السياسي.
لقد تشكلتْ الخليةُ الأولى الأساسيةُ للدولةِ الفلسطينية عبرَ منظمة التحرير، وكان المناخ العام مناخ تضحية وفداء من قبل الجمهور الفقير الواسع في المخيمات، وسيطرت منظمة فتح على هذه الخلية الأولى، وعبر تكتيكاتها العسكرية المختلفة المتفاوتة بين المغامرات الرهيبة والتضحيات الكبيرة، تغلغلتْ في حياة الشعب وانضم إليها الكثيرون، وغدت هي مشروع الدولة.
الأجواء التضحوية الثورية، والعمليات الفدائية، والبطولات، وثقافة النضال العارمة التي أشاعتها، كل هذه جعلت الجمهور يتصور أنها خارج قوانين الصراع الاجتماعي، ولا علاقة لها بسببيات الدول العربية السياسية، وأنها قادرة على أن تقفز على سيادات الأنظمة الإقطاعية والرأسماليات الحكومية العربية الفاسدة بتجرية ثورية(نقية)، لكن هذا الوعي الرومانتيكي بدأ ينهارُ مع تراكمِ الموادِ الواقعية السوداء، فالجماهير الشعبية المضحية بقيت مثل الجماهير العربية الأخرى مادة نزيف إقتصادي، والأسوأ للمغامرات العسكرية المجنونة، وتحولت أراض (محررة) في البلدان العربية إلى أراضٍ محروقة ومناطق للحروب الأهلية.
الهيمنة الفردية المطلقة من قبل ياسر عرفات ومجموعته على فتح تحولتْ إلى هيمنةٍ مطلقةٍ على منظمة التحرير، اليسارُ واليمينُ في المنظمة، لم يخرجا عن الخيوطِ الماليةِ التي تحركُ العرائسَ السياسية، وضجيجهما الهائلُ لم يشكلْ تيارات تنويرية وديمقراطية وليبرالية فلسطينية مؤثرة متصاعدة التأثير، ومثلَ قاعدة الأنظمة العربية الإقطاعية والرأسمالية الحكومية العربية: من يملك الخزانةَ يصوغ التاريخَ السياسي ويُشكلُ الدُمى على المسرح الفقير من العقل.
بل لقد ساعد اليسارُ الطفولي الفلسطيني في تقوية اليمين الإقطاعي، المستولي على الخزانة، بمغامراتهِ وصخبهِ وعنفه، حتى بدا العقل عند فتح، التي جمعتْ بين الدهاءِ والفساد.
لكن المال الذي يأتي للخزانة الفلسطينية لم يكن فقط من الضرائب على الشعب الفلسطيني الفقير المنهك، وحتى هذه لم تأت إلا بقرارات عربية سيادية، بل كذلك من فوائض النفط العربية، التي تدفعها حكوماتٌ عربيةٌ عديدة، كل منها لها سياسة، وتوجهتْ لفردٍ أو لمجموعةٍ لم تكن تمتلك وسائل المحاسبة السياسية والمالية الدقيقة، ولم تكن ثمة حكومة، ولم يكن ثمة برلمان منتخب، وبهذا فإن السيولةَ الماليةَ سالتْ في بعض الجيوب.
صحيفة اخبار الخليج
23 اغسطس 2010