رأينا كيف أن الحروب الأهلية في البلدان الإسلامية تتضخم وتستعر في البلدان الجنوبية الصحراوية أو ذات الغابات المدارية، أو الأرياف الفقيرة، فالطبيعة القاسية تعري هشاشة الأنظمة العربية الإسلامية، فالسببية الاجتماعية الطبيعية تفضح بشكل دموي هنا، وليس معنى ذلك أن الأزمة الاجتماعية السياسية غير موجودة في البلدان الإسلامية الأخرى، بل هي موجودة ولكن هذه البلدان الطرفية الشديدة التخلف تنفجرُ بسببِ ظروفها الاجتماعية المتخلفة هذه، فقد شكلتْ الأسباب الطبيعية الشديدة القسوة، وضعا اجتماعيا انفجاريا.
الأرياف والبوادي المتصحرة والغابات هي كلها أشكال تؤدي إلى ضعف الإنسان الكبير هنا، مع غياب الموارد المهمة، وحين تظهرُ المواردُ المهمة نراها تخففُ مؤقتا من الهيمنة الكلية للطبيعة القاسية، لكن لا تلغيها.
وجودُ الإنسانِ المدني هنا محدودٌ، والأشكالُ القرابيةُ القبليةُ تلعبُ دورَ الناظم الاجتماعي السياسي، وهي أشكالٌ متخلفةٌ تكونُ في طوعِ أي زعيم متفرد سواءً زعيم عصابة أو تاجر مخدرات كبير، أو رئيس مخابرات.
الزعيمُ يستطيعُ بحكمِ الهيمنةِ القرابيةِ المعجونة بسيطرةٍ دينية، أن يربطَ القبيلةَ أو الجماعةَ بمن يريد. هنا تنتفي العقلانية والديمقراطية ويحدثُ أكثرُ أشكالِ الدكتاتورية تخلفا، وتطرح النصوص الدينية بأشكالٍ كاريكاتيرية، خاضعة لتبجحات الزعماء وأهوائهم السياسية.
ونلاحظ هنا ان المناخات السيئة الصعبة لا تستطيع أن تلتهم إرادة الإنسان المسلم أو المسيحي، إذا كانت القوى المدنيةُ متطورةً كما في إندونيسيا، حيث المدن والحداثة الاقتصادية وعمل النساء الواسع تحتلُ مكاناً كبيراً فتلغي هيمنةَ الطبيعة القاسية المطلقة.
المناخُ لا يقهرُ ولا التصحرُ بذاتهما، لكن الأشكالَ القرابية الدينية ذات الرؤى المحدودة تعرقل القبائل عن التطور التحديثي، وهذه تتسرب إلى القرى التي هي سكن للقبائل السابقة، مع ذات الأفكار الدينية المحافظة المعرقلة للتحديث الذي هو أساس السيطرة على الطبيعة القاسية.
وبعد هذه الدول الشديدة التصحر أو الغابية المدارية فإن الدول التي تأتي بعدها أقل تعرضاً لهذه الظروف الطبيعية القاهرة بسبب وجود المؤسسات الاقتصادية العامة والخاصة التي طورت الإنتاج لمستويات متباينة في كل بلد، ولكن المدن العربية والافريقية الإسلامية والآسيوية القريبة منها، لم تختلف عن كيان القرى القبلية من حيث وجود دول يهيمن عليها شيوخ القبائل، وتتعرض الموارد لسيطراتهم سواء كانوا قيادات حاكمة أو الأحزاب المسيطرة أو قوى الضباط الكبار.
استطاعت المدن العربية الإسلامية في الوسط الصحراوي القريب من الأنهار والمياه أن تكون مراكز للسيطرات الحكومية وليست مدناً تحديثية حقيقية، ونظراً لوجود الجيوش الممركزة هنا لا تستطيع الصراعات السياسية والاجتماعية، أن تخرج قوى عسكرية مضادة، فتلجأ لاستخدام العنف أو الإرهاب أو كل أشكال استعمال النيران.
يتوهم السكان انهم في الحضارة الحديثة لكنهم ليسوا كذلك، وما يختلف وجودهم هنا عن الأرياف والصحارى في أفغانستان وباكستان هو فقط وجود السيطرة العسكرية والبوليسية والاقتصادية المركزية القوية، لكن حرائق افغانستان المتشابهة تتسلل، والمتمردون هنا يحملون السلاح بشكل فردي أو بجماعات صغيرة، ولا توجد تضاريس تساعدهم على نشاطاتهم، فإذا اتسعت هذه التضاريس كما في اليمن والجزائر والعراق فإن حروب العصابات والقلاقل تنتشر بشكل أكبر.
وعدد البلدان الذي يدخل هذه الصراعات العنفية يتسع، ولنلاحظ كيف كانت بلدان خليجية تخلو من هذا تماماً قبل عقد، لكن اختلف الأمر الآن. وكلما كانت السيولة النقدية كبيرة كانت قادرة على حفظ التوازن المؤقت، فهي تجعل المواطنين أكثر قبولا للاستقرار وعدم اللجوء للمغامرات لكن إذا تناقصت هذه السيولة تصاعدت أعمال العنف كما في العراق ومصر، حيث تغدو المناطق الصحراوية والعشوائية مناطق لأهل العنف.
الصحارى والجبال مناطق مهمة ومراكز للجيوش المضادة للأنظمة، ولكنها كذلك تتداخل مع الأحياء الشعبية المأزومة اقتصاديا داخل المدن، فتنشأ صلاتٌ سياسيةٌ وعسكرية بين الجانبين، ويتسلل السلاح إلى قلب المدن التي كان يُفترض أنها مركز الاستقرار والأمان والجيوش.
صحيفة اخبار الخليج
18 اغسطس 2010