في البلدان الإسلامية الشديدة التخلف مثل افغانستان والصومال وباكستان والسودان يغدو انتحار الاقطاعين السياسي والديني شيئاً مرئياً، بعدمِ وجودِ منقذ داخلي، نظراً لاستخدامِ العنفِ المسلح بين الطرفين أو الأطراف، لأن الإقطاعين يغدوان مجموعاتٍ من المتزعمين والمتحكمين بحكمِ الدين المطلق وبحكمِ السياسةِ الحكوميةِ الوحيدة الأبدية.
يكرسُ هذا الجانبَ تخلفُ هذه البلدان وصيرورتها أريافاً وبوادي مُفقرةً مهمشةً لا تجد سوى أن تدمرَ الأعداءَ المفترضين الحقيقيين أو الموهومين.
كما يكرسُ ذانك التلاعبُ السياسي الوطني والتدخلات الأجنبية، التي لها مساراتٌ وأجندةٌ كثيرةٌ مرتبطةٌ بصراعاتٍ دوليةٍ متباينة في كل حقبة.
إن في تركزِ الصراعاتِ الضاريةِ الدموية في الشريط الجنوبي للعالم الإسلامي، الذي اتسع حتى جنوب الجزائر والمغرب وموريتانيا، هو بسبب ان هذه البلدان فقيرة بلا ثروات وهي قريبة من الشظف الصحراوي الشامل.
إن البوادي دائماً هي مراكزُ للقلاقل خاصة حين تتدهور المراعي والمحاصيل الزراعية وتنضبُ اقتصادياتُ الرعي والزراعة، ولهذا فإن هذه البلدان نظراً لذلك تعتمدُ على القبائل وصراعاتها ولا يوجد صراعٌ ديني أو سياسي حقيقي، فهي قبائل تتصارع ثم تلبسُ أقنعةً دينيةً ومذهبية ووطنية، فهي كما كانت قديماً تريد إزاحة قبائل وتريد أن تكون مكانها، مثل صراعات قبائل البشتون والأوزبك، مثل صراع مسيحيي الجنوب مع مسلمي الشمال السوداني المذهبيين الشموليين الخ. فهو دائماً صراع الكراسي وتمزيق الخرائط السياسية.
من الناحية العالمية تعرضتْ المناطق الرعوية والزراعية لسحقٍ عالمي، من قبل الدولِ الرأسماليةِ الصناعية الكبرى، بتدهورِ السلع الزراعية وبارتفاعِ قيم السلع الصناعية وخاصة الاستهلاكية منها، ولم تجدْ الأريافُ والبوادي الإسلامية الجنوبية حكوماتٍ وقوى المال الكبيرة على مستوى المسئولية لتطوير هذه المناطق، لكونها مشغولةً بالاستثمارات الغربية نفسها والاستفادة منها.
طرفان وجدا نفسيهما على طرفي نقيض، على شفا حفرةٍ من النار، أحدهما يرتفعُ ويستثمر ويزدادُ غناه، وآخر يبيعُ أشياءهُ ويعرضُ أولادَهُ للعمل فلا يجدون ويخفي بناته عن المزالق، فلا يقدر، ويجد في مخاض الأزمة المستفحلة المنشقين والإرهابيين ومدعي الحلول الرافعين للكتاب المقدس، فيتحمس في عنفوان اليأس والمذلة والفقر، ويتم الدعوة للهيمنة على البلد ككل والهجوم على العاصمة أو تدميرها أو استبدالها ولا تقدم الحكومات من جهة أخرى إصلاحات حقيقية.
الجانبان الحكومي المنتفع والبدوي المدقع، وكلاهما إسلامي يجدان أنفسهما في حربٍ ضروس، تؤدي إلى زيادة الديون والفقر والتبعية والمذلة لبلدهما المشترك.
بل ربما لتدخل القوات الأجنبية والأساطيل والاستخبارات.
بلغت أحجام الخسائر في جنوب الصحراء الافريقية والصومال وباكستان وافغانستان أحجام تنمية بلدان كبيرة.
هذا المسلسل يبدأ في الصعود من الجنوب قليلاً قليلاً للشمال: وجود المناطق الريفية والجبلية التي يمكن فيها التمرد المسلح تعتمد على التضاريس، وكلما اتجهنا شمالاً قلت التضاريسُ الجبلية وغدت الأراضي مستويةً حتى عادت للجبال في أقصى الشمال الآسيوي العربي الكردي، ولهذا فإن الأزمات تأخذ لها طابعاً مختلفاً في هذا الاستواء.
في الوسط ليس الأمر مثل الجنوب المدقع، ثمة مدن، وثمة حياة مستقرة وقوى اجتماعية ذات معيشة جيدة، هنا لا ينفع العنف، ولا تفيد الدعاوى بحرب عصابات وسيارات مفخخة، في الجزائر مثلاً نجد الوسطية المرعبة، الجبال والأرياف المدمرة معيشياً والمدن الخليلة لفرنسا، صحارى وجبال كانت مرتعاً تاريخياً للخوارج، وللتطرفِ الدموي لجبهة التحرير الجزائرية، فتغدو خلايا مناسبة للإرهابيين. تاريخٌ مشتركٌ من الطبيعةِ المتطرفةِ ومن الطبيعة البشرية المتطرفة.
الطبيعةُ تعطي أسلحةً جاهزة للإقطاعِ المنفصلِ الذي تختلط فيه العصابات بالتمردات، ويؤدي أي سلاح إلى ظهور جبهة للحرية المزعومة والانفصال، وتستمر الأزمات طويلاً لأن حكومات المدن التي تأتي فيما وراء الجبال والأرياف والبوادي عاجزة عن تجاوزِ عصر الإقطاع بشكل جوهري وليس بشكل إصلاحي زائف أو عبر هجوم عسكري مضاد. السلاح يثبت هنا أن هذه المجتمعات لا تعيش العصر الحديث بشكل حقيقي، والهشاشة الطبيعية تسمح بتعرية ذلك بقسوة شديدة.
الأزمة في العالم الإسلامي أكبر من جميع الأطراف والحلول التبسيطية المُقَدمة.
صحيفة اخبار الخليج
18 اغسطس 2010