أخيراً.. ترجل الفارس عن ظهر حصانه ليقول لنا وداعا، ليقول لكل الذين صمتوا وقت المواجهة وداعا، وليقول لكل الذين تربصوا به وبكلماته ومقالاته وفكره في زمن كثر فيه السواد وكثرت الاوبئة وضعفت الارادة وانتعش التزييف للحقيقة ولكل بيئة نيرة، لن تنتصروا للابد.
صمت كاتبنا للابد مودعا قلمه وروحه للتاريخ، فوحده ينصف الناس، الذين يكتبون من اجل انتصار الحياة ضد طاغوت الموت والتدمير، التاريخ ينصف من حمل صليب الالم بين طرقات العالم ناشداً الحرية للانسان الحرية للعقل والمساواة للجميع ومن اجل الانسان. كان وحده في حلبة الصراع حينما كان المجتمع المدني صامتاً متواطئاً، خائناً مثل يهوذا ومتنكراً كبطرس ونخاسياً كما هم العشرات في بيت الامبراطور واسطبلاته. لم يكن الدكتور البغدادي مستعداً ان يغمد سيفه وقت النزاع ويتراجع وقت المنازلة، للذين حاولوا كسر نصل سيفه وبريق كلماته، رغم علمه انه في معركة اشبه بمعارك دونكشيوت والطواحين، حيث الفضيلة منتهكة والنفاق والدجل يغطي سماء المدينة.
حاول البغدادي في زمنه وزمننا إزالة المتاريس الظلامية وحده بيديه المثقلة بالسلاسل كاي فارس اغريقي رفض الاستسلام لجلاديه بعد ان سقط في معركة غير متكافئة، كما حاول مثل سبارتاكوس تدمير عالم العبودية وتبديل مواطني روما الفقراء وعبيدها الارقاء الى احرار جدد يتمتعون بحقوق جديدة وحرية جديدة، ولكنه اخفق في مسيرة نضاله الكتابية ونشر افكاره والقبول بالطعان والتخلف حتى وإن جاء من وراء الكواليس ومن اروقة الظلمة. لم يقبل ان يصمت لخصومه واعداء الظلام لشعوره وقناعته انه يبحث عن حياة سعيدة وجديدة، حضارتها وقيمها العلم والعقل والمعرفة والعمل، فمحاربة طقوس التخلف كانت معركته الدائمة وعنوان جولاته وحلبات فروسيته، كان يدرك حجم الظلمة المحيطة بفضاء مجتمعه وبيئته، ولكنه يعرف في الوقت ذاته، انه بدون المواجهة تسقط شرف الكلمة في القمامة، لدى مثقف يؤمن بدوره في اهمية التغيير.
ربما البغدادي لدى من يقرأ التاريخ بالمقلوب يتوهم انه انهزم، ولكنه يجهل ان من حرقوا الاب جوردانو برونو حيا من سجنوا توماس كامبانيلا ومن ترصدوا لجاليلو في اول حرب نجومية، هم انفسهم الذين طعنوا موتا باولو ساريي صديق جاليليو في البندقية، على يد قتلة استأجرتهم المملكة الحبريّة، كل هؤلاء المشتركين في جريمة واحدة، هم انفسهم الذين حاولوا تزوير العلم والتاريخ، ولكنهم في كل معاركهم كانوا يدركون مدى خطورة العقل في قدرته على نسف الاوهام والخزعبلات، حينما يتطلب الامر قول الحقيقة وبرهنتها. في لحظة تاريخية اضطر جاليليو الصمت على قناعاته، خاصة حينما اخذت الرياح ـ الرديئة كما يسميها النقاد في ايطاليا – تعصف حيث محاكم التفتيش الدينية بدأت تلاحق كل من يخرج عن خط العقيدة المستقيم، في ذلك الزمن قال جاليليو لقد اشتدت قناعتي بأن الارض ليست مركز الكون، وبان كوبرنيك وكيبلر على حق، غير انني لم اكتب شيئا رسميا، فيما راح لاحقا وبعد عشرين عاما من نظرية كوبرنيك اخذ يقاتل من اجل رؤيته حول الارض بأنها تدور حول الشمس وليس العكس، محاولا الاستماتة عن تجاربه العلمية ومخترعاته.
هكذا ظل البغدادي كسليل ثقافة تاريخية مقاتلة، لم تستسلم لمن يحاولون ايقاف حركة التاريخ. البغدادي ظل يكتب دون تراجع او مهادنة كبقية المثقفين الذين يحاولون الصمت تحت حجج واهية، تارة من خوف السلطان وتارة خوفا من بطانة استحكمت عقول الناس وافئدتهم. تحت اسماء وواجهات والوان رمادية دفع البغدادي ثمنا من صحته وقلقه وهمومه، حيث كان يحلم بان يكون وطنه الصغير ووطنه العربي الكبير حاضنا للتقدم والتطور مثل كل الحضارات الانسانية المعاصرة، التي صارت بفعل الواقع منارة العالم، فيما نحن في عصر الديجيتل نعيش خارج التاريخ، ومجرتنا تسبح في مساحة فارغة ومجهولة كمستقبلها المظلم، طالما صار العقل مصادرا وصارت سحب الدخان الخانقة هي التي تعلو فوق اسطح البيوت. كنت اقرأ مقالاته وموضوعاته مثل اي انسان واع واشعر بكل وضوح وسهولة، كيف يحاول البغدادي كاطلس الاسطوري حمل الكرة الارضية على كتفه، تلمست عمق معاناته وحنقه لتلك الاصابع المشوهة وهي تحاول اصطياد مفرداته، خنق فراشاته المحلقة في سماء منطقتنا، فاسكات صوت البغدادي كان معركة مهمة في اجندة من يكرهونه لفكره الليبرالي الحر، كانوا يتربصون قلمه في كل سكنة وهنة وحركة، يسعون لاصطياد الفارس وهو مثخن الجراح لكي يقودوه للسجن، فتلك كانت فرحتهم العظمى وانتزاع سيفه من يده كان حلمهم. ولكن الفارس ظل فارسا فوق حصانه، وقد كان المرض اقوى من قدرته على مواجهة جبروت الموت، بعد ان عاش زمنه مقاتلا وشجاعا من اجل مبادئه ومفرداته وقيمه، حيث لم يكن يريد لهذه الامة المتخلفة، الا الخروج من نفق الظلمة وبخور الشعوذة المختفية والظاهرة، في حياة عصرية مضطربة، غامضة ومهزومة.
ينام الفارس شجاعا في نومته الابدية، بعد ان عاش شجاعا لا يهاب من حاولوا سلبه حريته، عاش حرا ومات حرا ولكنه لم ينكسر.
صحيفة الايام
17 اغسطس 2010