قامت الأفكار المذهبية والفلسفية الإسلامية باستنساخ شكلاني للإسلام التأسيسي، بحيث ركزتْ في الشكل وليس في المضمون، في الدين وليس في الثورة، في المطلق الغيبي وليس في النسبي البشري.
ما شكّل التحولَ هو قدرة صغار التجار، الفئة المتوسطة لذلك الزمن علي التوحد مع العاملين، على التضحية بأموالِهم وبأنفسِهم للتغيير العام، وتداخل العاملين معهم في تلك التضحيات، لتشكيل وضع مختلف، لبداية حضارة كبيرة.
قامتْ الفرقُ والجماعاتُ والمذاهبُ باستنساخٍ شكلاني، عبر قراءات للمحدودِ والظاهري، والنصوصي، والغيبي، لكن لم تقرأ الواقعي، وفي عصرنا الراهن تتطلب المسألة فحوصا عميقة وقراءات دقيقة من أجل تناول وتوظيف السببيات الاجتماعية في عالم مختلف.
وحتى الظاهرات الحضارية التي تشكلتْ بعد ذلك لم يكن لها أن تُحققَ التحولات النهضوية من دون ذلك التعاون بين فئات متوسطة صغيرة عموماً وبين العاملين، بين الثقافة والجمهور.
الفئات المتوسطة في ذلك نظراً لنشاطاتهم في خدمة الإقطاع السياسي حصلوا على أموال تمكنوا من خلالها من إنتاج الثقافة التي لم تستطعْ أن تحفرَ بعمقٍ في إشكاليةِ النظام الذي واصل تدهوره حتى حوّل المسلمين إلى شظايا أمم.
تجد القراءات الراهنة الأعم تقوم كذلك على النصوصية وحبس الناس في السطحي والشكلانية الاجتماعية وجعلها أدوات لتكوين سلطة وجماعة سياسية تتوسع لتحكم في نهاية المطاف من دون أن تقوم بعملية تغيير حضارية متقدمة.
حين تتوحد الفئات المتوسطة وتناضل من أجل العاملين وتغيير شروط حياتهم، يمكن أن يُضاء التراث، ويُقرأ بشكلٍ تحويلي حداثي نهضوي.
النصوصيون لا يقدرون على الحفر المعرفي، ويخافون من الجمهور الفقير أن يقفز عليهم أو أن يَسرقَ سلطتهم وأموالهم، فيجب أن يكون هذا الجمهور متخلفاً، أو يخافون أن يساويهم ويتمرد عليهم كما في حالات النساء.
لهذا جرى عبر قرون التركيز في الأشكال، في الوعي المفارق، في الغيبيات التخديرية، فالفئات الوسطى القائدة الإسلامية هي نفسها متخلفة، غير قادرة على التضحية، وجعل الفقراء والنساء مساوين لهم في القانون والدستور.
ولهذا فإن تطور الأنظمة الوطنية أو الإسلامية تحدث فيها انتكاسات عميقة، فالبرلمانات شكلية، والتجمعات الجماهيرية المؤيدة للنظام أو للثورة هي للتصفيق، وتبقى أسس النظام المتخلفة نفسها من حيث القمع، وهيمنة الطبقة الصغيرة على الثروة، وترك العاملين في تخلفهم وأميتهم وانعزالهم عن المشاركة في الأجهزة، فهم للتصفيق أو لوضع ورقة الانتخاب، ثم يعودون لعزلتهم وسلبيتهم.
يمكننا في العصر الحديث مع التطورات الديمقراطية والعلمانية أن يتم تحييد أجهزة الدول وتقوم الفئاتُ التجارية والصناعية والمالية بحراكٍ ديمقراطي توجهُ قسماً كبيراً منه لتغيير حال الطبقات العاملة والنساء، أي نحو ناخبين طلائعيين متقدمين بدلاً من الجمهور التائه الراهن، فتكسبُ الأصواتَ التاريخية التحويلية إضافةً لأصواتِ صناديق الاقتراع، التي تحتاج إلى عمل سياسي مواكب.
هذا يتوقفُ على هذه الفئات وقدرتها على التحرر من الخوف وضيق الأفق وتشكيل تحالفات وتوظيف الإرث الإسلامي النضالي، والثقافة الديمقراطية المعاصرة معاً.
وكذلك على حراك طلائع القوى العاملة في فهم العصر، وإدراك النسبي، والإرث الديني. وتحريك الفئات الوسطى المترددة نحو الحداثة والعقلانية وتغيير أوضاع العاملين معاً.
التحالف مع العاملين وإنجاز التغييرات الاجتماعية الاقتصادية الديمقراطية لا تستطيع أن تقوم به سوى أبنية عربية إسلامية متقدمة، فيها أغلبيةٌ عماليةٌ مواطنة، وفيها برجوازيةٌ تقدمتْ نحو التصنيع الواسع وتأسيس منظمات علمانية ديمقراطية، بينما البلدان التي تفتقدُ أغلبيةً عمالية وبرجوازية صناعية حرة تحتاجُ إلى تأسيسهما أولاً، وذلك لا ينفي نشر ثقافة ديمقراطية أولية.
لهذا نرى أن مصر كنموذجٍ عربي تقتربُ من ذلك المستوى الموضوعي، فالديمقراطيةُ صناعةٌ اجتماعية، وليستْ شعارات، وصناديقَ انتخابٍ فقط، وليست استنساخاً شكلانياً دينياً.
صحيفة اخبار الخليج
16 اغسطس 2010