المنشور

أزمة الغذاء والاستثمار الأجدى

في النصف الثاني من شهر يوليو/ تموز الماضي كنت، وصديقان عزيزان من دولة الإمارات الشقيقة، أحدهما اقتصادي أيضا والآخر مهندس زراعي وخبير تربية أبقار، في أوكرانيا – ثاني أكبر مصَدِّرٍ للقمح في العالم- كنا نزور مؤسسة زراعية وإنتاجية حيوانية ضخمة بدعوة من صاحبها زميل دراستنا الجامعية. كان البصر والسيارة معاً يعجزان عن متابعة حدود الأراضي الشاسعة المزروعة بالقمح والمنشآت الزراعية الأخرى التي تضمها المؤسسة.
نظرتان، واحدة إلى رتل الحاصدات الألمانية الضخمة الثلاث عشرة القادمة نحونا مثيرة غبار القمح الطيب الرائحة بطريقة استعراضية أرادها أركادي (مالك مؤسسة كورناتسكي)، ونظرة أخرى إلى السيد كورناتسكي نفسه لتشعر بعمق معاني الكلمات التي سطرها قبل أكثر من ثلاثة قرون الكاتب الهجائي الإنجليزي والناشط الكنسي جوناتان سويفت ( 1667 – 1745): «من يستطيع أن يزرع سنبلتي قمح هناك حيث تنبت واحدة فقط، هو من يستحق ثناء الإنسانية. وسيكون قد عمل بالنسبة لبلده أكثر مما يعمله كل السياسيين مجتمعين…». زميلنا الذي وجد في مثل هذه الكلمات نداء طبيعياً له وقبل مثل هذا التحدي، صار محط أنظار بعض السياسيين. اعتذر عن مصاحبتنا ليوم واحد، وكان هذا اليوم موعده مع أحد الأحزاب السياسية الفلاحية التي دعته لمناقشة عرض حول زعامته للحزب.
ولهذه التجربة أهميتها الاستثنائية حيث تؤكد ما يذهب إليه علماء الاقتصاد الواقعيين منذ سنوات من أن الاستثمار في الزراعة هو الأجدى بعد الأزمة العالمية وتطوراتها. وتأتي أزمة الغذاء لتؤكد ذلك أيضاً. محاصيل القمح ونقصها عالمياً صارت حديث كل العالم منذ أواخر شهر يوليو الماضي. واشتد هذا الحديث بشكل خاص بعد أن أعلنت روسيا، وهي ثالث أكبر مصَدِّر للقمح في العالم، أنها بسبب موجتي الحر والجفاف اللتين تسببتا في حرائق التهمت حقول القمح، سوف توقف تصديره ابتداء من 15 أغسطس/ آب وحتى نهاية العام الجاري على أقل تقدير. وقد عللت السلطات الروسية الحظر بالحيلولة دون حدوث ارتفاع في أسعار الطحين والخبز وبقية المنتجات الغذائية في سوقها الداخلي وبالحاجة إلى الاهتمام بالثروة الحيوانية والحفاظ على قطعان المواشي وكاحتياط لعاديات الزمن واحتمال التقلبات المناخية في العام القادم.
تجدر الإشارة إلى أن روسيا التي ظلت توسع صادراتها باستمرار قد صدرت 21.4 مليون طن من الحبوب لتدخل في عداد أكبر ثلاث بائعين عالميين، واحتلت 13في المئة من حجم السوق العالمي، كما تقول «فريميا نوفوستيي». وفور صدور قرار الحكومة الروسية توقفت المضاربات في بورصة شيكاغو تلقائياً مع ارتفاع أسعار الحبوب بنسبة 6 في المئة. وقبيل هذا التوقف قفزت أسعار بيع القمح الآجلة لأعلى مستويات لها منذ 23 شهرا. وفي أوروبا ارتفعت أسعار القمح بنسبة 11في المئة وازداد سعر طن القمح عن 230 يورو. ورغم أن روسيا كانت أكثر المتضررين من التقلبات المناخية حيث تراجعت محاصيلها من الحبوب بنسبة 30 في المئة، إلا أن محصول هذا العام لم يكن جيداً في معظم البلدان المصدرة للقمح، بما فيها كندا، الاتحاد الأوروبي، كازاخستان وأوكرانيا. وحسب معطيات رسمية انخفض حجم الإنتاج العالمي من القمح هذا العام بنسبة 4 في المئة. وبالكميات المطلقة فإن إنتاج الحبوب سينخفض عالمياً هذا العام ربما لأكثر من 20 مليون طن. وحسب تقديرات أخرى فمن المتوقع أن يبلغ إجمالي محاصيل القمح أقل من 652 مليون طن، بينما بلغ العام الماضي 679 مليون طن.
غير أن ما يلحظه المراقبون هو أن أسعار الحبوب كانت ترتفع عالميا بوتيرة أسرع من ارتفاع أسعار صادرات القمح الروسية حتى قبل إعلان وقف صادرات الأخيرة. فمثلا، في 9 يونيو/ حزيران الماضي بلغ طن القمح الفرنسي بأسعار فوق 167 دولاراً، والأميركي 181 دولاراً، بينما الروسي 165 دولاراً فقط. أما في بداية يوليو فقد ارتفعت الأسعار 183، 204، 167 دولاراً للطن من صادرات القمح لنفس الدول على التوالي.
في ظروف محدودية إمكانيات كبريات الدول المصدرة للغذاء وحاجة بلداننا المتزايدة له، والخطورة السياسية التي ينطوي عليها مثل هذا الاعتماد، فإن العقل الاستثماري والتخطيطي السليم يجب أن يتجه إلى حيث الخصوبة الأكبر والأراضي واليد العاملة الأقل كلفة، وحيث الحاجة إلى التمويل، وطبعا… إلى حيث انعدام الضواغط السياسية.
أين مكان أوكرانيا من ذلك بالنسبة لبلداننا، وما واقع المناخ الاستثماري فيها، وهل من تجارب معها في ذلك ؟ هذا ما سنناقشه لاحقا
 
صحيفة الوسط
15 اغسطس 2010