المنشور

تاجرُ الورقِ المفلس

كانت الثقافةُ هي السائدة، المنتجون في البحر يغنون، المزارعون يحتفلون ويدقون الحَب ويطلقون الرقص، ثم صارت الثقافةُ أشرطةً تجري محترقةً لتسجيلِ تراث يغرقُ تحت الماء، ودوراً تُباع وتصير مطاعم وغرفاً.
انتشرت المكتباتُ في زمنِ بدءِ الحداثة، والجمهورُ يحتشدُ لتسلم الجرائد والمجلات، الوهجُ السياسي الوطني يتعانقُ مع الورق، وفروع المكتبات تُفتح، وقراءة الكتب علامة المثقف.
ارتبطت الثقافة بالوطن والتغيير، بموجات الحداثة في العالم، بأسماء شوامخ، بمفاتيح تُظهرُ كنوزاً ومعارف.
بدت العقلانيةُ قادرةً على حل المشكلات الاجتماعية، وبدا الناس يرون المستقبلَ بأملٍ في تغييرِ الحُجر الضيقة، والحقول التي تموت، والمستشفيات التي لا تعالج، والحرية الوطنية صارت حلماً قريب المنال.
هنا كان المبدعُ زهرةَ المرحلة، صوتَ الغواصين، لغةَ الريفيين الحالمين بمزرعةٍ ذات محاصيل، رغم انه لم يظهرْ في التلفزيون، ولم يُكرم في غرفةِ الإذاعة، لكنه كان يُحمل في قلوب الناس، وتتهافت الإيدي لورقه.
انطلقتْ الأموالُ بقوةٍ فيما بعد، في الحقول وقتل النخيل، في التهامِ البحر والمصائد والجزر، في بيعِ الكلام المقدس، في بيعِ الكائنات الصغيرة في الداخل والخارج، في نشرِ الإيدي العاملة العظمية وإسكانها في البيوت القديمة والأزقة الرثة وبيوت التراث، وتحولت المدن العتيقة إلى دورِ أشباحٍ أو أبراج بابل، أو مخازن خرافية لمالٍ هائل لا يصلُ إلى أقربِ حارة، ولا يغذي أقرب سمكة بل راحتْ الأسماكُ تحتج وتهرب.
لم يعدْ الإنسانُ جميلاً، لم يعد يرى وجهَهُ الذي حملَ صورةَ بضاعةٍ، حذاءً مرةً وسوطاً مرةً أخرى.
الإنسانُ الأجير المسكين، بائعُ العظمِ والكلمة والورق واللوحات، يمشي في السوق محني الظهر من ثقل السنين وكساد التجارة الثقافية.
لايزال المجنونُ يحلمُ بالوطن الجميل، بمصائد لا تخترقها السفن الحديدية، بشواطئ تطلقُ الأكسجين، بضمائر يقظة، وبقارئ حميم مستمر.
مكتباتهُ الوفيرةُ تقلصتْ، تحولتْ إلى مشروعاتٍ تجارية استهلاكية مهلكةٍ ناجحة، وكل شهر تتغير، وتصيرُ متاجرَ أخرى مفلسةً هي الأخرى، والأموالُ تذهبُ لفوق، للبنايات العالية، لكن مكتبات الورق انحصرتْ وذابت، ولحسن الحظ جاءَ قراءٌ من بلدان أخرى لاتزال فيهم رائحةُ الحياة، ومتعةُ البصر، وجمرة الفكر، جعلوا هذه المكتبات القليلة الباقية تتنفس تحت العناية المركزة.
لم يعدْ منتجُ الكلامِ الجميل، والخطِ الأنيق، والصورِ الذهبية الحارقة، قادراً على إطعامِ عائلته، من الحروفِ والكلماتِ والبشرِ، إنه يعرضُها في السوق، يمرُ كثيرون جداً لا ينطقون لغته، وكثيرون لا يفهمون لغته، وكثيرون يكرهون لغته.
(اخوتي اشتروا هذه اللوحات، لقد اشتغلت فيها عشر سنوات، لقد صبغتها بدمي، لقد غذيتها بأحلامي وشراييني).
(اخوتي اشتروا كتبي المستعملةَ هذه، لقد عشتُ سنواتٍ طويلةً وأنا أجمعُها، إنها كتبٌ ثمينة، هذه آخرُ ما أملكُ من الزمن الجميل، اشتروها لأشتري الخبزَ لأطفالي، لأسددَ الإيجارات المتراكمة، لأشتري الألوان لعالمي).
من بقي يغني؟ هل بحتْ أصواتُهم أم انقطعتْ أوتارُ حناجرهم؟
هل رحلتْ الإذاعةُ عنهم أم أن شركات الأغاني والكاستات تريدُ أثماناً باهظةً للتجارة في كلماتِهم وعروقهم؟
لماذا لا يطبع المؤلفون؟ هل تراكضوا لبناءِ البيوتِ الغالية أم تكدستْ كتبُهم في بيوتِهم وعزفتْ الوزارات والمكتبات عن شراءِ نسخٍ منها؟
ما بالهم لا يطبعون أم (طبعوا) في بحرِ الديون والافلاس والرواتب الهزيلة؟
هل بقي أحدٌ من دور الغناء القديمة أم أن المطربين والنهامين رحلوا وتواروا في عالم الغيب والشهادة؟
أين القراء؟ هل باتوا يقرأون أم يغيبون وعيَهم في الدخان وملء الأجساد بالسُكرِ والقهرِ؟
أين القوم المحبون للكلمة والورق والكتاب؟ هل انقرضوا؟!

صحيفة اخبار الخليج
11 اغسطس 2010