نصبت الخيام، خيام الرفاهية وخيام الكادحين، فلكل خيمة وتد تاريخي وذاكرة شعبية، خيام بخمس نجوم وخيام بهموم، اقرب لهموم الشعب، كما دشنت المقرات الانتخابية، والتي تعكس نبض مرشحيها ورائحتهم وتوجهاتهم وتاريخهم وسيرة حياتهم الممتلئة بعطرها، الذي لم يتم تلويثه، مثلما تعمل تلك الشخصيات النأي بنفسها عن، مستنقع الكلام الآسن والرخيص .
بدأت عقارب الساعة الدعائية لجولة انتخابية ساخنة وحملات انتخابية – قد تكون اكثر من مسعورة في مناخ ابسط ما يمكن وصفه بالبهتان والكذب – انطلقت الحملات الانتخابية وهي تشير الى فضاء مفتوح قادم، يتسع ويتطور ايقاعه الانتخابي والدعائي بوتائر سريعة ومتنوعة واعلامية، مبتذلة تارة ورزينة ونبيلة وحضارية تارة اخرى، غير ان ما لا يمكن فهمه في كل تلك الالعاب الكلامية الاقرب لمهرج السيرك السياسي منه من رجل سياسة او جمعيات سياسية تحترم ما معنى الفروسية والاقتتال النبيل وجها لوجه، وكلمة بكلمة وحق بحق، بدلا من الاختباء خلف ستائر داكنة سوداء وكواليس تآمرية لا تليق بأي نوع من انواع الجمعيات. كتبنا في سنوات مضت عن طبيعة «النائب الجنتلمان» وهذا ما سعينا اليه عندما قررنا الدخول في جولة انتخابية اقل ما يمكن وصفها بانها لم تكن متوازنة ولا «نظيفة» بكل المقاييس، ومع ذلك فكل اناء بالذي فيه ينضح، وما كان منا الا احترام فكرنا وتاريخنا قبل أي شيء آخر، ولم نلتفت يومها لأولئك الذين ذهبوا ينقبون في السجلات وحسابات البنوك لعلهم يجدون ما يمس اخلاقنا، ولم يكتف بكل الفشل الاخلاقي لشعورهم باننا لم ندنس ايدينا في كل الاوساخ المالية والفساد المالي والاداري، ولا ممارسة اباطيل المشعوذين في ثوب كهان اعتقدوا ان المعبد وكهانه، هم الاجدى والاجدر من غيرهم في الدفاع عن مصالح الشعب. لم تجد يومها مثل تلك الابواق الا العودة للموروث الفكري والتاريخي لكي يقنعوا الناس باسم الدين ومجتمع الفضيلة – حسبما يتوهمون – فحاولوا اقناع العامة وكبار السن بأن هذا المرشح «شيوعي» وطبعا كبار السن ونصف الاميين لم يستوعبوا الكلمة واعتقدوا انها ماركة تجارية او مهنة كالطبيب والمهندس، فاختزلوا لهم التاريخ والسيرة الذاتية والمسألة الانتخابية ووظيفة النائب مستقبلا في مفردتين صغيرتين، انه مرشح «لا يؤمن بالله والدين» فاصيب الناخبون الاميون من الحي بنوع من القشعريرة والحساسية الجلدية، لعل المناخ لا ينقل لهم وباء هذا المرشح، اعتقد الخصوم ان الناس وتلك التهمة السائدة والرائجة وحدها كفيلة باسقاطك.
ومع ذلك كان هناك أناس بسطاء ونصف أميين لم تتلوث وطنيتهم ومحبتهم وذاكرتهم بطبيعة واخلاق مرشحهم. لا ننكر دور الدعاية المغرضة ولا اباطيل الاباطيل، فهناك مروق ومرجفون في المدينة مهمتهم التلاعب بعقول الناس والناخبين من اجل مصالح آنية، معتقدين ان المقعد النيابي هو المطاف التاريخي الاخير للانسان، لكونهم بلا مشروع سياسي او وطني وفكري وثقافي، اما نحن اليسار والديمقراطيون التقدميون، فان التاريخ وحده يشهد، والممارسات اليومية تشهد منذ ولادة المشروع الاصلاحي، والمنبر التقدمي كانت بوصلة عمله محددة وواضحة وكل اجندته لم تتعرض للتقلبات والاهواء والتراجعات، فعملنا ورؤيتنا المنهجية وانطلاقاتنا من ارضية فكرية لا تهزها رياح الانكسارات ولا التغيير بقدر ما تمنح من قوة على التعامل مع المستجدات بحنكة وتجربة مستمدة من موروث تاريخي.
دعك من هذا التطرف يمينا او يسارا، متزمتا او محافظا، فكلها لا تعكس توجهات المنبر التقدمي، دون ان ننكر ان هناك اخطاء سياسية طبيعية، تنتجها الممارسات، بفعل غياب تجارب سابقة في العمل العلني والديمقراطي وفهم طبيعة التنسيق والتكتيكات اليومية مع أي جمعية، بما فيها جمعيات من طراز ديني نجحت في اخفاء اجندتها باسم الاستحقاقات التاريخية، وتلبست مفردة «المعارضة !!» لكونها مفردة قادرة على تضليل شريحة شعبية واسعة. من رفعوا شعارات قديمة تآكلت واهترأت باسم المعارضة وتنوعها واختلافاتها، فعليهم ان يعيدوا حساباتهم، فما عادت كل المصطلحات القديمة عملة مناسبة للترويج ! من وصفوا جمعية المنبر التقدمي بأنها «جمعية حكومية !» يدركون جيدا اننا لسنا الطوفة الهبيطة، التي بامكانهم تجاوزها وتجييرها والقفز من فوق جدار قناعاتها الرفيعة والعميقة. مثل تلك الجمعيات التي وصفتنا «بالحكومية» تعي جيدا التاريخ – ولكنها تغالط الحقيقة – وتعلم طبيعة الافراد والجماعات فلكل انسان سيرة ذاتية واضحة، لا تحتاج لدجل الكذب ولا لترهيب الناس عن تلك الوجوه والشخصيات الناصعة.
لا يحتاج مرشحو المنبر لمن يزكي تاريخهم باعلان سينمائي او في شوارع الاحياء والقرى وقلوب الناس، فليس بالضرورة الحديث عن نفسك لكي تبدو ناصعا ونزيها، وانما دع الحياة تترك أنهارها تجري لتصب في حدائق الناس المجدبة، فاعضاء المنبر التقدمي ومرشحوه ليسوا بحاجة لبطاقة دعوة قادمة من جمعيات دينية وغير دينية لكي تزكيهم وتقدمهم بصك براءة، وبأنهم معارضون ومن جمعية غير معارضة، فمعارضتنا تختلف عن معارضتكم ونهجنا سيكون دائما مختلفا ومنسجما مع التوجهات الفكرية والسياسية النابعة من قناعاتنا.
كنا دائما داخل المنبر مدرستين ومنهجين في آلية التعامل مع انماط معينة من جمعيات دينية وشخصيات سياسية فيها تمارس «تقيتها» معنا ونجحت في اخفاء مساحيق الجدري على بعض الناس، ولكنها ظلت عاجزة عن خداع كل الناس، بما فيهم شخصيات ورموز سياسية في المنبر.
قلنا لهم كما قال لهم آخرون «السياسة خدعة ودهاء» لدى تلك المدارس الميكافيلية، فيما اصحاب المبادئ ينظرون للموقف الاخلاقي قبل اي شيء، فاخلاقيات الطبقة العاملة تظل مختلفة عن اخلاقيات البرجوازية الصغيرة الريفية وتلاقحها مع طبقات وسطى عقارية وتجارية، وجدتا نفسهما في جمعيات طائفية ودينية، اكثر انسجاما مع فكرها ومصالحها. سألني احد الاصدقاء تمثل من تلك الجمعيات الدينية من الوجهة الطبقية؟ اي الطبقات تدافع عنها ومن هي الطبقة الاجتماعية المعبرة عن تلك الجمعيات، التي بدت من النظرة الاولى بلا هوية طبقية وان عباءتها فقط دينية تمثل هذا المذهب او ذاك، ولكننا عندما نزيح القشرة الاجتماعية والسياسية لأية جمعية، فان هناك تبقى الحقيقة الايديولوجية للفكر، رجعيته وتقدميته، ليس في هذا الموقف او ذاك وانما في مجمل الرؤية الكونية والحياتية والسياسية والاقتصادية، لهذا تراهم يهربون من كل مناقشة جدية عميقة، ويحاولون الاختباء في اليوم حول ممارسات حقوقية ومطالب شعبية، بعضها مزايدات والبعض الآخر عمل دعائي يحاول دعاته ضخ حركتهم بالحيوية، كلما اصابها الركود والسبات. ما نراه اليوم من انياب الذئاب واظافرهم الطويلة المتعطشة للكراهية، هي نفسها التي تكشر عن نفسها عندما يبدأ الصدام الطبقي وتجلياته تبرز في ميدان من الميادين، ففي هذا المحك العملي المحسوس والهام، سنجدهم يسعون الى تدنيس سمعة الجمعية واعضائها ومرشحيها بعبارات سيئة النوايا.
فلماذا الهجوم على جمعية المنبر واتهامها «بجمعية حكومية» وهم يدركون في قرارة انفسهم عكس ما يقولون؟ هل لأننا نحاول اختراق معاقلهم لنهز شجرة يابسة وعجوز، نحاول اقتلاعهم من مواقع توهموا انها ابدية لهم، متناسين ان الشعب ليس ملكية خاصة بالامكان تملكها واحتكارها، فالشعب مفردة متنوعة جامعة، تحمل من التفسيرات اشكال عدة ففي داخل الشعب يكمن كل شيء وأي شيء الا الطائفي والفئوي والعنصري، متى ما صار شعبنا اكثر وعيا ونضوجا باهمية وحدة الوطن والشعب من اجل ومع من يدافعون عنه بمصداقية اثبتتها تجارب الزمن، فجبهة التحرير، ووريثها التاريخي مهما تلونت الظروف وتغيرت المسارات، تبقى تحكمها سلوكيات سياسية متباينة عن تلك الجمعيات، التي منحت نفسها حق امتلاك الشعب وحق ان تكون «جمعية معارضة» فاهلا وسهلا بكم ايها المعارضون الاشاوس!! في مناخ المضاربات السياسية وزمن الانتخابات.
صحيفة الايام
8 اغسطس 2010