تكونت أزمة اليمن الراهنة من قيام حكومة صنعاء بفرضِ نظامٍ شمولي عسكري على اليمن ككل، متخليةً بهذا عن مواثيق الوحدة اليمنية وعن تشكيل نظام ديمقراطي تعددي ينمو في ظل العلاقات الرأسمالية الحرة.
حدثَ هذا الانقلاب على صعيدي الجنوب والشمال بعد صراعاتٍ كبيرةٍ بينهما وبعد مقاربات للوحدة ومفاوضات ومواجهات دموية.
بالنسبةِ إلى مقاربةِ اليمن الجنوبي للوحدةِ والقبول بها، جاءتْ بسببِ العقليةِ الفكريةِ السياسية السائدة في الحزب الاشتراكي، فقد عاشَ على وعي (الاشتراكية) وإزالةِ الطبقاتِ والبرجوازية الاستغلالية خاصة، وشكلَ دكتاتوريةً سياسية عسكرية، جعلتْ السلطةَ في يدِ المكتب السياسي للحزب الاشتراكي، الذي راح أعضاؤه يتصارعون بشكلٍ مستمرٍ مدمر، مما عبر عن عدم وجود ملكية عامة كبيرة ومؤثرة، وعدم القدرة على تحويل نسيج البلد الاجتماعي البشري للتطور الحديث الديمقراطي، ولعدم وجود علاقات اجتماعية شعبية ديمقراطية مزدهرة.
إن العقلية القومية النخبوية كانت هي جذر تفكير القادة (الاشتراكيين) وهي التي أدت إلى المغامرات السياسية والقفز فوق الظروف الموضوعية، فغدت رؤيتهم للشعب اليمني بأنه شعبٌ موحد، يستطيع أن يشكلَ وحدةً فيما بينه، كأن ثمة عناصر من الدم هي التي تلعبُ الدورَ الحاسمَ في التكوينات الاجتماعية – السياسية.
إن غياب الوعي الديمقراطي الاجتماعي لديهم جعلهم يتعاملون مع شعبهم بطريقة نخبوية إدارية، وأحلوا قراراتهم محل الدرس الموضوعي لقوانين التطور الاجتماعي، وهذا بدأ منذ عمليات الصراع المسلح ضد الاستعمار، وترسختْ عقلية النخبة والمغامرة وقدرتها على تفجيرِ وتغييرِ العلاقات الموضوعية، في عالم الطبقات والبشر، عبر الشعار والحركة السياسية المفصولة عن قوانين الواقع.
لقد أسسوا حسبَ تصورِهم نظاما اشتراكيا، ثم توجهوا للوحدة مع نظام (رأسمالي) كما قيل وقتذاك. أما هم فقد أسسوا نظاما رأسماليا حكوميا عسكريا شموليا لايزال متشربا بالعلاقات القبلية، والحياة الاجتماعية الإقطاعية، وأعطوا كذلك الأغلبية الشعبية العديدَ من المكاسب كتشكيل ملكيات عامة وتحديد الأجور وتخفيض الأسعار والتعاونيات وغيرها.
لم يكن النظام الرأسمالي الحكومي وقتذاك يستندُ إلى ثروةٍ كبيرة، كما أن المساعدات من الاتحاد السوفيتي وألمانيا الديمقراطية كانت هي التي تبقيه حيا، مع معاركه المستمرة وعدم القدرة على تشكيل نظام رأسمالي ديمقراطي، يُصعدُ من مختلف أشكال الإنتاج، ويطور مستوى الحياة الاجتماعية والثقافية المتخلفة للشعب في الجنوب.
كانت المهماتُ الأولى لتشكيلِ نظامٍ رأسمالي ديمقراطي هي المطلوبةُ في بدءِ الاستقلال، وهو أمرٌ لم تفهمهُ هذه النخبُ اليساريةُ الطفولية وصارعتْ القوى التي طرحت ذلك.
وفي لحظةِ التوحيدِ مع الشمال عادتْ فجأة وبلا مقدمات إلى طرح النموذج الرأسمالي الديمقراطي وتجاوز تجربة (الاشتراكية)، وبشكل هو ذاته قفزة يسارية أخرى، ونخبوية مماثلة لطريقة عملها، بدلاً من أن تجعل ذلك فترة انتقالية مطولة ريثما تتركز هذه السمات التطورية في الجنوب وترى تطبيقها ونموها في الشمال كذلك.
هكذا قامتْ بالدخول في نظامٍ رأسمالي ديمقراطي موهوم عبر وحدة مع نظام إقطاعي عسكري.
أي أن تلك العملية التطورية التدريجية لم تكن قادرة عليها، وهي كانت سوف تسببُ تصدعاتٍ داخلية كبيرة، لهشاشة المبنى السياسي القائد، وكثرة المغامرين الذين سوف ينتهزون فرصة هذا التحول للوراء و(ضرب التجربة الاشتراكية) نظراً لعقلياتِهم المتخلفةِ في فهمِ الاشتراكية والديمقراطية، كما أن الظروف الاقتصادية كانت صعبة، ولهذا وجدت قيادة الحزب الاشتراكي اليمني في عملية الوحدة قفزة الهروب الكبير للإمام، وتحويل الأزمة إلى انتصار موهوم، وطمعت في البقاء على قمة السلطة وتقاسمها مع قوى الإقطاع العسكري وقوى الإقطاع الديني في الشمال.
وحين تحققت تلك التجربة – الكارثة تقاسمت النخبة الاشتراكية الحصصَ والكراسي مع قوة الدولة الحاكمة الحقيقية في الشمال التي أعطتها وهمَ الحكم، حيث أمسكت بالجيش والداخلية وتركتْ لها المناصبَ الشرفية، ثم أجرت لها عمليات الاغتيال الواسعة في ظرف زمني بسيط كانت استئصالاً مبرمجاً.
فالطبقة الحاكمة الإقطاعية سواءً العسكر الحاكم أم شيوخ القبائل وشيوخ الدين لا يمكن أن تتوافق مع تجربة نضالية شعبية مهما كان مستواها خاصة انها اتسمت بتاريخ من المغامرة والفوضوية والحدة، فجعلتْ من الوحدة مصيدة قاتلة.
كان تاريخ التحرر عبر الجبهة القومية يحملُ تلك الجراثيم ورفضَ هذا التاريخُ طريقةَ جبهة التحرير اليمنية الجنوبية عبر الليبرالية ونشر الديمقراطية بشكلٍ متدرجٍ واختارَ حكمَ الجملة الثورية المنتفخة فكان في الوحدة يحصدُ ثمارَ تلك التراكمات السلبية، وضاعتْ كلُ دروس الفكر التقدمي من توصيفِ الطبقات وعلاقات الإنتاج وقراءة وعي الجمهور.
صحيفة اخبار الخليج
7 اغسطس 2010