تكاد دولة اليوم في عالمنا المعاصر تخلو ساحتها السياسية من الصراع الفكري – الاجتماعي حول الموقف من التاريخ الذي يتخذ أشكالا مختلفة متعددة، منها الموقف من كيفية تدوين أحداثه وبأي منهج يكتب، والموقف من مساحة الحرية في توثيق ونشر الأحداث، ومدى إتاحة الحق لعرض ونشر الوثائق المتصلة بأحداث التاريخ السياسية والاجتماعية التي مر بها أي بلد، وكفالة حق الناس في الاطلاع عليها كحق دستوري ديمقراطي أصيل إذا ما كانت الدولة تكفل هذا الحق في دستورها، والموقف من عرض وقائع التاريخ نفسه، كاملا أم منتقصا أم مشوها، ويندرج في ذلك أيضا تناول أي واقعة من الوقائع التاريخية، القريبة منها أم البعيدة، وكذلك تناول أي حقبة من حقب العهود والأنظمة المتعاقبة على حكم البلد المعني.
لكن هذا الصراع يتفاوت تمظهره وحدته على الساحة السياسية من دولة إلى أخرى، وبطبيعة الحال فإن الدول ذات التجارب الديمقراطية العريقة لا تظهر فيها الأزمة التاريخية، إن صح القول، بالدرجة المتفاقمة كالتي تظهر في دول العالم الثالث المعروف جلها بالأنظمة الاستبدادية والشمولية مع نسبة صغيرة من الأنظمة الديمقراطية الفتية أو الشكلية. فحرية البحث العلمي وحق الحصول على المعلومات والوثائق التاريخية وحق نشرها.. كل ذلك متاح ومتوافر في الدول الديمقراطية الغربية بصورة أكبر من دول العالم الثالث، فتلك الدول الغربية لا تسعى ولا تستطيع على الأدق تأميم التاريخ وامتلاكه كما يروق لها بحيث تزيف ما تود تزييفه وتحجب ما تود حجبه عن عامة الناس، حتى مناهج الكتب التاريخية التعليمية ثمة في الغالب حد أدنى من الموضوعية في التعاطي مع الوقائع والأحداث التاريخية وطريقة عرضها، وعلى سبيل المثال وأنا أكتب هذه السطور بجانبي على أحد أرفف مكتبتي عينة من الكتب الأمريكية المترجمة شبه الرسمية – إن لم تكن رسمية بالفعل – تقر بحقائق تاريخية معروفة للعالم بأسره، ومنها استرقاق الزنوج وما واجهوه من عسف ومظالم يندى لها جبين البشرية على أيدي المهاجرين البيض الذين استوطنوا الأرض الجديدة، وقبل ذلك ما فعلته موجات الهجرة الأولى من آبائهم وأجدادهم الفاتحين بحق الهنود الحمر سكان أمريكا الأصليين من جرائم إبادة واجتثاث لم يستطيعوا إنكارها.
لكن هذا لا يعني أن مناهج التاريخ الرسمية في الدول الغربية الديمقراطية هي دائما وبالمطلق موضوعية ونزيهة وصادقة أو محايدة بريئة من الباطل، فثمة نسبة دائما – تزيد أو تنقص – في هذه الدولة أو تلك من اللاموضوعية أو التزييف أو حجب الحقائق لكن تظل هذه النسبة بالتأكيد لا تقارن بالنسب الملاحظة أو اللافتة للنظر على مناهج التاريخ في مختلف المراحل التعليمية بدول العالم الثالث ومنها عالمنا العربي.. فإذا افترضنا أن نسب التشويه والحجب في المعلومات التاريخية في الدول الديمقراطية العريقة تتراوح مثلا بين 30% و50% فإنها في الدول العالمثالثية الشمولية لا تقل في معظم الأحيان عن 70% سواء في نسبة حجب المعلومات وطمسها وعدم نشرها كاملة ومصادرة ما ينشر أو فيما يتعلق بالحدث التاريخي أو نسبة التشويه والطمس في المعلومات الخاصة به.
على أن ما يميز الدول الغربية الديمقراطية عن الدول الشمولية العالمثالثية ليس فقط تدني نسبة التشويه والحجب في مناهجها التاريخية أو في إعلامها بل إنها تتيح الحرية والحق للباحثين والكتاب لكتابة ما يفند ذلك التشويه وكشف وعرض ما حجب أو طمس من معلومات في الوقائع التاريخية.
ونحن لا نضيف جديدا إذا ما قلنا إن الصراع على “التاريخ” أضحى اليوم جزءا لا يتجزأ من الصراع السياسي – الاجتماعي العام على الساحة السياسية في أي دولة من دول العالم بأسره، بل إنه يأتي ضمن جوهر ذلك الصراع، وسواء تمظهر هذا الصراع في إطار الصراعات بين القوى السياسية – الاجتماعية المتصارعة والمتضاربة المصالح على الساحة السياسية أم تمظهر بين بعضها أو كلها من جهة وبين النظام الحاكم في أي بلد من جهة أخرى.
وعادة ما يبرز الصراع على التاريخ وتزداد حدته عند المحطات أو المنعطفات التاريخية الصعبة التي يأخذ منها الصراع السياسي – الاجتماعي العام حدته وتزداد في مناخه الحساسية في المواقف من التاريخ وأحداثه، وذلك بفعل زيادة حدة ذلك الصراع السياسي – الاجتماعي ذاته، ويبرز ذلك بوجه خاص في البلدان التي تعرف أشكالا من التعدديات الاثنية والعرقية والقومية والدينية والطائفية. وفي بلداننا العربية لعل من أبرز النماذج على ذلك النموذجين اللبناني والعراقي.
لذا سنتناول في مثل هذا اليوم من الأسبوع القادم النموذج اللبناني من واقع برنامج لمحطة الـ “بي.بي.سي” البريطانية لجنة تقصي الحقائق حول غياب التاريخ الموحد في لبنان جرى بثه في 23 مارس الماضي.
صحيفة اخبار الخليج
5 اغسطس 2010