منذ انقشاع الطفرة العقارية التي نحمد الله أنها وصلت إلى نهايتها مع بروز الأزمة المالية والاقتصادية العالمية، والتي فرضت بعدها ضرورة إجراء مراجعات على مجمل توجهات ومشاريع الاستثمار العقارية، حيث توقفت بعض تلك المشاريع لحين انقشاع مسببات ذلك التوقف، في حين توقفت العديد من تلك المشاريع إلى غير رجعة، أقول منذ ذلك الحين والناس تتساءل عن طبيعة ومستقبل تلك المشاريع العقارية الضخمة بل والأسطورية، والتي أثبتت التجربة أنها لم تكن محل دراسة ،إلا بقدر ما هي سوى شطحات أملتها حاجة رأس المال الأجنبي في إغواء واستنزاف ثرواتنا من دون طائل حقيقي! وأنا هنا أتحدث عن البحرين على وجه الخصوص، فهل كانت تلك المشاريع التي بدأ بعضها يعود تدريجيا وإن على استحياء، مستفيدا من حالة الفراغ الاستثماري الموجودة، حيث لا خطط استثمارية واضحة المعالم، ولا إستراتيجيات أو حتى أفق واضح المعالم باتجاه تنويع القاعدة الاقتصادية وتقليل الاعتماد تدريجيا على النفط كمقوم أساسي بل ووحيد تقريبا لإيراداتنا الوطنية، ويظهر ذلك جليا في حجم التباين الذي تفرضه تقلبات أسعار النفط على موازناتنا العامة وخطط الإنفاق العام لدينا.
نقول ذلك ونحن نشهد تداعيات الطفرة العقارية التي ضربت اقتصاداتنا، كنتيجة طبيعية للفراغ الاستثماري كما أسلفت، وكذلك بسبب ما فرضته أحداث الحادي عشر من سبتمبر من هجرة قسرية للثروات المالية الضخمة الباحثة عن مواقع أكثر استقرارا ولو إلى حين، فالظروف التي نشأت بعد تلك الأحداث المأساوية يمكننا القول أنها خلقت بدورها واقعا مأساويا في مناطق عديدة من العالم لعل من بين أبرزها منطقتنا الخليجية والعربية على وجه التحديد، والتي كانت ولا زالت تفتقد الخطط والبرامج الاستثمارية، فهي بكل بساطة ساحة استثمارية مشوهة غير واضحة المعالم، نظرا لغياب السياسات والنهج الاستثماري الرصين، الذي لو أن بعض معالمه كانت موجودة لاستطعنا أن نخلق من كل تلك الأموال المهاجرة مواطن استثمار حقيقية قابلة للاستدامة، وان نخلق من خلال تلك الثروات الضخمة القادمة إلينا واقعا مغايرا لما خلقته لنا من تشوهات مزمنة طيلة السنوات القليلة الماضية، والتي يبدو أن علينا أن نتعايش مع كل ما أحدثته من خراب وتشوه ودمار لفترة زمنية يبدو أنها ستطول، لأننا ببساطة لا زلنا نعيش واقع التشوه والارتجال. من بين تلك الانعكاسات ما يمكننا ملاحظته من مشاريع بعضها متوقف وبعضها تمت المباشرة فيه، لكن تابعوا معي أين تقع تلك الاستثمارات وعلى حساب من أو ماذا؟ إنها مشاريع تتنافس في حجم ارتفاع أبراجها ومستوى مفاهيم الرفاه المرتبط بها، ونوعية وطراز البناء المأمول فيها، دون أن نسأل عن مغزى وقيمة ما ستقدمه من قيم مضافة لاقتصاداتنا الوطنية وما ستوظفه لنا من عمالة وطنية، خاصة إذا علمنا أن كل الدراسات التي أجريت في محيطنا الخليجي والعربي تنبئنا عن حجم مهول من الخريجين الجامعيين والعمالة الأجنبية القادمة لأسواقنا، وهي كلها عوامل ضغط اجتماعية واقتصادية وأمنية وسياسية لا يبدو أننا تهيأنا لها جيدا. وهنا نتساءل بمشروعية حول ما الذي يمكنها أن تقدمه لنا مشاريع الاستثمار العقاري الضخمة تلك، حيث يجري الآن التسويق لها مجددا، وكأنها خيار ابدي لا مناص من اللجوء إليه، وباعتبارها عنوان وحيد لنهوض أسواقنا من جديد، دون أن نمعن التفكير في ضرورة وأهمية تحجيم تلك المشاريع والاتجاه بعيدا عنها، لنجرب عوضا عنها قنوات استثمارية أكثر جدوى وإبداع، مثل مشاريع الاقتصاد المعرفي، والاستثمارات والصناعات المتوافقة معنا بيئيا، والصناعات الصغيرة والمتوسطة ذات القيمة المضافة العالية، والصناعات التكنولوجية صديقة البيئة، فهي استثمارات بحسب بطبيعتها لا تتطلب أراض شاسعة كتلك التي تحتاجها الصناعات الضخمة ولا حتى رؤؤس أموال كبيرة جدا أحيانا، على أن الجانب المهمل في كل ما يجري بكل أسف، هو أننا في الوقت الذي نتعذر بعدم وجود أراضٍ كافية للمشاريع الصناعية الصغير والمتوسطة، إلا أننا في المقابل نخلق عنوة وبقسوة غير مقبولة مساحات شاسعة تمتد لعشرات بل ومئات الكيلومترات في أعماق بحرنا، هي عبارة عن مشاريع دفان بحري بدأت منذ سنوات معدودة لكنها نجحت بامتياز وبعناد وعدم رحمة في تطويق مدننا وسواحلنا على قلتها، وعاثت تدميرا في بحرنا وبيئتنا البكر، وتكفي زيارة خاطفة لبعض مشاريع الدفان البحري تلك، كتلك التي اصطحبنا إليها مؤخرا مشكورين أعضاء التكتل البيئي، لتشعرنا بالأسى عن حجم الدمار المهول التي أحدثته، لنكتشف معا حجم الخسران وفداحة المصيبة التي ألمت ببحرنا وقبلها بشواطئنا، حيث يجري الآن وسط حسرة البحارة والناس تدمير فشوت ومصائد الأسماك وإزالة حظور الصيد بالعشرات بوعد إقامة بدائل صناعية باهظة التكاليف بطبيعتها، لتكتفي الجهات الرسمية بتعويض أصحابها بمبالغ زهيدة، تبقى عنوانا ومؤشرا فاضحا على الكيفية التي أصبحنا نتعامل فيها مع ثرواتنا ومستقبل أجيالنا، وحقهم كما هو حقنا في بيئة بحرية نظيفة وشواطىء تصلح للاستهلاك الآدمي.. كل ذلك يجري تحت يافطات الاستثمار وجلب المستثمرين؟!
إنها دعوة لاستعادة العقل والتفكير في البدائل الاستثمارية أمام سطوة رأس المال وجشع الضمائر.