بعد فترة طويلة من تجريبها لم تفلح استراتيجية مكافحة الإرهاب، بل زادت نيران الإرهاب ووسعت من مساحاته وفجرت ألغامه.
كما أن الجمهور يبدو غير معني بمكافحة الإرهابيين وأصحاب وضع القنابل في الأسواق ودور العبادة.
فقط حدث تغيير في مزاج الناس فيما سُمي بالصحوات في العراق التي أعطت الجمهور أرضه وقدمت السلاح له ليدافع عن حياته، وجعلت الإدارات الذاتية تنمو لديه.
كشف الإرهاب اختلالات عميقة في البنى العربية وضعفاً في الهياكل السياسية النخبوية، بل عرى عقوداً من التنميات الخاطئة والأبنية الاجتماعية المتجهة لأزمات عميقة.
لابد من فرملة قوية على هذه التنميات المزعومة المتدفقة، التي يقال إنها تنمياتٌ لمصالح الشعوب وليس أنها تنميات لمصالح بعض الجيوب.
ويقال انظروا لقد حدثت نهضات هائلة فها هي المدن تتسع وتصبح مماثلة لمدن الغرب العملاقة.
انظروا إلى الحشود فيها والزحام والعربات التي ملأت الشوارع، أليست هذه هي مدن التحديث؟
في عهود الاستقلال حصل بعض الإدارات على تحكمٍ شبه كلي بالاقتصاد، وهي مكونة من جماعات بسيطة الفهم محدودة الإدراك، جاءت من تكوينات رعوية وقروية بسيطة وتحكمت في الملايين والمليارات.
أبسط ما لديها من استراتيجيات تنمية تكديس البنايات والمصانع القديمة المنتجة للمواد الخام التي لا تحتاج إلى عبقريات تقنية وعمالة ماهرة بل طاقات رخيصة، وبعدها قامت بتكديس ثلاثة أرباع السكان في كلِ بلدٍ في مثلثٍ أو مربعٍ صغير من الأرض الوطنية وتَركتْ ثلاثةَ أرباع الأرض فارغة.
قيل في ذلك إن هذا قضاءٌ على التخلف، وهدم للبداوة، وقفزة للحضارة والنماء.
لكنهم قاموا في الواقع بالقضاء على فروع الإنتاج الصغيرة في المناطق الريفية والصحراوية، وجلبوا حشود السكان لتعيش على مال الدول، التي تضخمت أعداد موظفيها، بشكل اصبحوا عبئاً على الميزانيات، كما ضاعت الحسابات الدقيقة في الدول وتشكلت جماعات الفساد وتاهت الأراضي العامة من الخاصة، وغدت الوزارات الكبرى هي البنوك، التي تعز من تشاء وتذل من تشاء، وغدت المدن العربية الإسلامية لا هي مدن ولا هي أرياف ولا صحارى بدوية، خليطٌ من المضارب وناطحات السحاب، حشودٌ هائلةٌ من الأميين والمقلوعين من بواديهم وقراهم والمرميين في أحواش المدن الضارية، ومجموعات صغيرة من العقول المحاسبية والإلكترونية الصماء، ثم هي فرصٌ هائلةٌ للمحتالين.
الإمكانياتُ الفكريةُ لروادِ المدنِ الحديثة العربية كانت قريبةً من الصفر، فقد صمم لهم الاختصاصيون والدارسون القلة المتخرجون في الجامعات العربية والأجنبية خرائطَ المدنِ الحديثة، وهي تصفياتٌ للغابات والمراعي والشواطئ وهدم للمدنِ التراثيةِ وإقامة بنايات عملاقة وحفر الموانئ بصورٍ مشوهة مدمرة للبيئة، وجلب المصانع الخردة من الغرب، وملء البلدان بالبنوك والحصالات التي تجمعُ الفلوسَ وليس المنتجة للرساميل فهي شكلٌ آخر للتصحر ولكنه مالي. وقالوا إنها التنمية العظيمة.
وصار الناسُ في المدن أغلبهم لا يشتغلون، خاصة النساء الحرائر المحصنات، ونصف الذي يعملُ راقد في المقاهي والوزارات والشركات، وتم ترحيل العمال عبر الأقطار، ونضبتْ الأريافُ التي كانت مليئة بالمنتجين وتصحرت البلدات، وفُتحت أبواب العمل للأجانب للمزيد من إنعاش الاقتصاد والجيوب.
بعد عقودٍ تفجرت الأحداث وثارتْ الأريافُ والقرى الجبلية وعرفنا صعدةَ وجبال تورا بورا، وأسعارَ الحشيشِ في افغانستان، وسياسات الشوارع والمؤسسات الأهلية والحكومية المحروقة والقنابل البشرية المفخخة.
كانت سياسةُ الماضين تجاه أزماتِ الأرياف والبوادي بسيطة، وهي من وجدَ أرضاً بوراً فأصلحها فهي له. فكانت سياساتُ إحياءِ الأرض الموات قد خلقتْ استقرارا اقتصاديا اجتماعيا، ونشرتْ الملكياتَ والحرفَ الصغيرةَ في مناطقِ الفقر ومنعتْ الرحيلَ والتشرد.
أما سياساتُ الحكوماتِ العربية الاسلامية الراهنة فهي تقول دعوا الأراضي البورَ لمشاريعِنا القادمة التي نوسعُ فيها ثراءَنا (المحدود) فنضاربُ بأسعار الأراضي ونتحكم في المشروعات، ودعوا أراضي الأرياف تبور لنحولها إلى أملاك للمستثمرين وللمناقصات والمشروعات الواعدة بالثراء الواسع للشعب.
لهذا فإن سياسةَ مكافحة الإرهاب فاشلةٌ لأنها لا تعطي أهلَ الأرياف الأراضي حتى البور منها، ولا تمدُ سكانَ الجبالِ بالمياه والحبوب والمكائن ليزرعوا وينتجوا، إنها فقط تلاحقُ نتائجَ سياسات تفقير الأرياف بهجماتِ القنابل التي تزيدُ الأريافَ تصحراً.
صحيفة اخبار الخليج
1 اغسطس 2010