يمكن للوعي في لحظة من لحظاته، بل إنه غالباً ما يتحول إلى مشكلة حقيقية، ويعوذ المرء بنفسه أن يمجد الجهل، ولكن الجهل يبدو في لحظة من لحظاته، بل إنه غالباً، ما يتحول إلى نعمة بالنسبة للغارقين فيه من القانعين بما هم عليه.
الإنسان الجاهل، أو الجاهل بالأمور إن أردنا تعبيراً أكثر تهذيباً، هو شخص قنوع راض دائماً عما حوله. إنه بالأحرى لا يشغل باله بالبحث أو التنقيب أو التساؤل أو التحري، فكل ما هو معطى بالنسبة له يعد حقاً غير قابل للجدل أو النقاش، أما الإنسان المصاب بلوثة الوعي فإنه إنسان حائر، قلق يطحنه التمزق بين وعيه وبين ما يراه أو يعيشه.
يمكن أن يكون عذاباً وجحيماً أرضياً، لأن الوعي بالأشياء يخلق حرقة، فهو مبني على رغبة تصد دائم في مواجهة واقع بائس مرفوض، وفي البحث عن الأفضل والأحسن والأجمل.
والإنسان الواعي ذو نظرة أبعد وأشمل تتخطى المعاش وتتطلع نحو أفق آخر، نظرة تفحص وتحلل وتقارن وتنقد وتقترح البديل، لكن الوعي منبوذ دائماً شأنه شأن كل القيم والقضايا الجميلة.
الواعون هم تركيبة خاصة من البشر، فيهم مساحة للحلم والشعر والاستشراف، وإلى هؤلاء يجب أن ينتسب المثقف المسلح بالعلم والمضيء بالمعرفة والمنخرط في الحياة على خلاف أشباه المثقفين والمدعين والباحثين عن أدوار وبطولات، وما أكثرهم لسوء الحظ.
وللواعين دائماً حاسة نقدية إزاء القضايا والظواهر. إنهم يمتلكون تلك المقدرة المدهشة في النفاذ إلى عمق الأشياء، إلى جوهرها، ولديهم الجرأة والشجاعة على الإمساك بالجمر ضريبة بحثهم عن الحق والحقيقة.
إنهم مسكونون بقلق المعرفة، ومكتوون بحرقة السؤال ومفتونون بالمستحيل، وهم إذ يلقون بأنفسهم في خضم المجهول، فذاك لأنهم لا يقيمون كبير وزن لما عليهم أن يتحملوه لقاء انسجامهم مع ذواتهم، لقاء انحيازهم لخياراتهم في مواجهة الزائف والهش والمبتذل والسوقي والتافه والسطحي، وكل ما يزيد الناس استلاباً على استلابهم واغتراباً عن فطرتهم.
لولا هؤلاء لما كان الوعي، لما كانت منعطفات الحياة الكبرى وتحولاتها، ولما كانت الأفكار الكبيرة والكتب الخالدة والروايات والمسرحيات العظيمة، لولا هم لما كان التاريخ من حيث هو بحث دائم عن الأفضل والأجمل وتوق دائم لحياة أكثر إشراقاً.
الوعي هو الجذوة، وليس من طبيعة الجذوة أن تنطفئ مهما كانت الرياح عاتية.
صحيفة الايام
28 يوليو 2010