قاد الإقطاعان الديني والسياسي باكستان إلى التفتت، وبقيتْ البنيةُ الاجتماعية متخلفةً، منتجةً لكلِ أنواعِ المحافظة والتمزق الداخلي.
فجاءت أحداثُ غزو افغانستان لتعطي هذه الكتل السياسية والطائفية فرصاً للنمو والعسكرة، وتغدو هي مركز (إنقاذ) العالم!
لقد أكدت هذه الأحداث تناقض عالم الحداثيين الذين كانوا يريدون إيجاد عالم نهضوي تحديثي عالمي، بصرفِ النظرِ عن طبيعةِ منتجي هذا العالم سواءً أكانوا غربيين رأسماليين أم (اشتراكيين)، فدولةٌ تقدميةٌ كالاتحاد السوفيتي صارت (محتلة) لافغانستان في حين تقومُ الولاياتُ المتحدة بتسليحِ القوى الدينية الطائفية التي وجدتْ في باكستان المعادية للعلمانية والديمقراطية، مركزاً هائلاً، مليئاً بتضاريس حرب العصابات، وسلحتْ هذه العصابات كذلك بأقوى أسلحةِ الفتكِ الحديثة الملائمة لمثل هذه الحروب.
عبرتْ الحربُ الباردةُ عن تناقضِ الحداثيين، وعدم وصولهم لتشكيلِ نظامٍ سياسي عالمي متقاربٍ، نظراً لتخلفهم عن فهم البُنى الاجتماعية التي يتصارعون فيها، ولهذا فإن قوى ما قبل الرأسمالية حصلتْ على مواقع كبيرةٍ في العالم، وتم إعطاؤها الأسلحةَ والتقنيات التي تفتكُ بها وتنتشرُ، وتعيدُ أشكالَ حرب العصابات في العصر الوسيط وتضيفُ إليها تقنيات الحروب المعاصرة.
كان الموقع الملائم هو باكستان من بين الدول، وهو في حدِ ذاته إعلان إفلاس لحداثةِ باكستان ومضيها في عالم القبائل وعودتها إلى حكم الجماعات الخارجة عن القانون الحديث.
قدمت دولُ الغرب وبعضُ الدول العربية المليارات والكهوف والأرياف والجبال الواسعة من أجل هذه الجماعات، وجعلتْ من المخابرات الباكستانية الوسيطَ (الأمين) بينها وبين هذه الجماعات، فوضعتْ بين أيديها الكثيرَ من الأموال والقدرات بل وضعت (السلطة) التي تتراوح بين العصر الجاهلي والعصر الاستعماري، وأثبتت هذه الفاعليات دورها في التغيير نحو الوراء.
إن حربَ العصابات ناجعةٌ لتنظيم قبائل فقيرة وجعلها قبائل الهيمنة والنفوذ والأموال والزراعة اللاقانونية وحكم الأرض، أي جعل القبائل الإقطاعية المتاجرة بالإسلام تتحدُ بالمطلق والسماء، وتفكر بأنها هي هزمت العملاقين وهذا يثبتُ عظمةَ الجهاد!
وفي هذا تشكيل قوةٍ هجومية على الحضارة الحديثة نفسها مع تفاقم القراءات الصفراء للتراث، التي نزلت لقاعِ باكستان وافغانستان، وجاء العملاقان التحديثيان ليضربا قرنيهما هناك وينكسرا. وهذه نشرت ثقافةَ خرافةٍ في باكستان زادت من تحليقها في الفضاء الاسطوري الدموي.
لقد توسعتْ الأزمةُ وأُدخلتْ افغانستان فيها، أو أُدخلتْ باكستان في السيطرة على جارتها، وبالتالي غدتْ الأزمةُ التفتيتية الحربية القبائلية قارية وعالمية.
خرجت باكستان منذ البداية عن المعالجة الديمقراطية التحديثية، وفي برامج الجنرالات القادة السابقين كانت ثمة عناصر مهمة لم تُطبقْ كالإصلاح الزراعي والعلمانية، والتصنيع، لكن من دون ديمقراطية، والآن (ديمقراطية) من دون تلك العناصر التحويلية الضرورية.
عمليةُ التركيبِ بين عصري الجنرالات والديمقراطية الراهنة، غدت صعبة، وقوة الطبقة الوسطى التي تكونت في هذا المخاض العسكري الدموي عاجزة موزعة بين فئات عدة: دينية محافظة تعكس سيطرة الإقطاع ذي الجذور الريفية، وتحديثية غير ثورية لكون جذورها غير صناعية واسعة.
فالانتاج الزراعي ضخم، ويبلغ 40% من ناتج إجمالي الناتج المحلي، ويلعب تصدير السلع الزراعية والسلع المصنعة من المواد الزراعية دوراً أساسياً، تليها السلع الصناعية.
وتتدهور المناطق الريفية والجبلية بالصراعات فتتدفق القوميات والقبائل المتعددة على المدن التي تتضخم وتحدث فيها صراعات قبلية وقومية، وتعيش سوء خدمات كمدينة كراتشي التي تبلغ 15 مليون نسمة وهي العاصمة الاقتصادية التي يتدفق إليها الريفيون المقتلعون من الحروب والتنمية الرأسمالية المتخلفة التي تنمو ببطء وبتناقضات الجهات والمصالح، ويحملون إليها صراعاتهم الاثنية خاصة عرق البشتون الذي لم يجد إصلاحاً زراعياً وتنمية وتثقيفاً إسلامياً حقيقياً في قراه وجباله، وتطوير هذه القبائل وجذبها لعمليات الحداثة هو أساس الإصلاح.
لا تستطيع باكستان حتى أن تُوجدَ جهازَ دولةٍ متماسك وحديث:
يذكر أحد مسئولي صندوق النقد العالمي ان باكستان تعجز عن تجميع الموارد الضريبية فإن عدد سكان باكستان يتجاوز 170 مليونا ودافعو الضرائب لا يتجاوزون مليوني شخص.
وأسرة رئيس الوزراء مثقلة بفضائح الفساد وسرقة الأموال العامة، وهذه عينة من عجز الطبقة الحاكمة الثرية عن الإصلاح، وقد طالبت في الفترة الديمقراطية الراهنة بإزالة تلك القضايا الموثقة في الأجهزة والمحاكم، بدلاً من حلها ودفعِ ما أُخذ من مال الناس!
تظهر في المدن عمليات التنمية الرأسمالية الفوضوية المضطربة، وتعكس التناقض الفاجع بين المدن والقرى، وبين الإدارات البيروقراطية الاستغلالية وجمهور الفقراء والعمال، ووجدتْ الأريافُ المنهكةُ المدمرة حلولَها في حروب العصابات وتحولها إلى سلطات دينية مطلقة، ويهيمن عليها وهم هزيمة الغرب وانتصار الدين، في حين لا تهزم ولا تدمر إلا بلدها.
قيل لها على مدى عقودٍ إن الدينَ النقي هو الحل، فرأتْ انه فيها، ولا بد من تكوين سلطته عبرها.
عندما حولوا الإسلامَ إلى اداةِ صراعٍ ضد الهنود حولوه بعد ذلك إلى صراعٍ بين بلديهما القوميين باكستان وبنغلاديش، ثم حولوه إلى صراعٍ بين قبائلهم ومناطقهم وعوائلهم، وفي حين تدخل الهندُ الثورةَ الصناعيةَ التقنية يدخلون هم الثورة التفكيكية!
وفي الجانب الغربي ثمة حلولٌ عنفيةٌ لا تصلُ إلى فهم المشكلات ولا جذورها، ولابد من تحليلها في موضوعات أخرى، لأن هذه الحلول هي الجزءُ الآخر من المصيبة.
صحيفة اخبار الخليج
26 يوليو 2010