بعد ترتيبات سياسية وأمنية كواليسية مسبقة ‘زُف’ رئيس حكومة تسيير الأعمال الفلسطينية سلام فياض في العاصمة المصرية القاهرة على وزير الدفاع الإسرائيلي إيهود باراك ليدشنا بذلك انطلاق المفاوضات المباشرة بين السلطة الفلسطينية برئاسة محمود عباس وإسرائيل.
في اليوم التالي لهذا اللقاء الذي زعم فياض وكبار مساعدي الرئيس محمود عباس أنه لقاء للتباحث حول بعض القضايا المتعلقة بتخفيف القيود المفروضة على حركة سكان الضفة الغربية - أعلن إيهود باراك أن المفاوضات المباشرة سوف تُستأنف قريباً، ثم تتالت التصريحات الأمريكية المتفائلة بهذا الخصوص، بل إن وزير الخارجية الإسرائيلي افيغدور ليبرمان حدد موعداً لانطلاقها وهو شهر سبتمبر المقبل.
موقف رئيس الحكومة سلام فياض هذا يتناقض تماماً مع المواقف المعلنة لصائب عريقات مسؤول ملف المفاوضات في السلطة الوطنية الفلسطينية الذي حرص على التأكيد تباعاً، قبل لقاء فياض-باراك وبعده، بأن الانتقال إلى المفاوضات المباشرة مشروط بإحراز تقدم ملموس في المفاوضات غير المباشرة في ملفي ضمان أمن الدولة الفلسطينية الموعودة وحدودها التي هي حدود الخامس من يونيو1967 والحدود. ناهيك عن تصريحات رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس نفسه وآخرها ما صرح به السبت 10 يوليو 2010 خلال احتفال في رام الله في ذكرى الإسراء والمعراج من أنه ‘إذا حصل تقدم في المفاوضات غير المباشرة في قضيتي الحدود والأمن نذهب إلى المفاوضات المباشرة، إنما إذا لم يحصل أي تقدم فما هي الفائدة من المفاوضات، ستكون عبثاً لا فائدة ولا طائل منها إطلاقاً’.
مما لاشك فيه، والحال هذه، أن إسرائيل الواقعة تحت وطأة ‘حصار’ سياسي ومعنوي جراء توقف المفاوضات بينها وبين السلطة الوطنية الفلسطينية، قد هللت كثيراً لهذا الاختراق (نقصد لقاء فياض-باراك) للحصار السياسي الذي لا يناسب بل يزعج ويضايق وظيفة ‘دولة العلاقات العامة’ التي تتعيش عليها الدبلوماسية الإسرائيلية وماكيناتها البروبغاندية.
وإذا ما لملمنا شتات المعطيات المتعلقة بهذا الموضوع ووضعناها في ‘نموذج’ مختبري تحليلي، وبضمنها التحركات الدبلوماسية والسياسية الأمريكية النشطة على هذا الصعيد (لقاء أوباما ونتنياهو في واشنطن واتصال أوباما بمحمود عباس في أعقاب ذلك اللقاء وزيارة عباس ومن بعده نتنياهو إلى القاهرة خلال هذه الأيام والتصريحات المرتبطة بهذه التحركات والمعنوية بحرص)، يمكننا الاستنتاج بأن إسرائيل قد كسبت الرهان بحصولها عما قريب على مبتغاها في استئناف المفاوضات المباشرة مع السلطة الفلسطينية، ذاهبةً بخلاصات أمين عام الجامعة العربية عمرو موسى من أن المفاوضات غير المباشرة مع إسرائيل تشارف على الانهيار وأنه لا جدوى منها، أدراج الرياح. وهو ما سيجعل مهلة الشهور الأربعة التي أعطتها لجنة المتابعة العربية لاختبار مدى صدقية الطرف الإسرائيلي في المفاوضات غير المباشرة، لا قيمة لها.
نعم إسرائيل نجحت في تغيير موقف الرئيس الأمريكي باراك أوباما من قضية الاستيطان اليهودي وذلك بإسقاط واشنطن شرط تجميد الاستيطان الجزئي في الضفة الغربية لقاء استئناف المفاوضات المباشرة مع السلطة الفلسطينية وتحول الضغط الأمريكي باتجاه محمود عباس لاستئناف هذه المفاوضات مقابل بعض الإجراءات الإسرائيلية الشكلية من جنس تلك التي يطالب بها رئيس حكومة السلطة الفلسطينية سلام فياض، على شاكلة تقليص النشاط العسكري الإسرائيلي في عدد من مدن الضفة الغربية وإزالة عدد الحواجز العسكرية ونقل المسؤولية الأمنية عن مناطق إضافية إلى أجهزة السلطة الفلسطينية. وقد حدث ذلك نتيجة لأسباب أمريكية داخلية تتعلق بالانتخابات النصفية للكونجرس، إضافة طبعاً لضغط اليمين الصهيوني داخل الإدارة وداخل دوائر الكونجرس على أوباما للتوقف عن ‘زجر’ إسرائيل.
إنما بدون حصول أوباما على تنازل من السلطة الفلسطينية فإنه لا يستطيع مساعدة نتنياهو على تحقيق مبتغاه.. أي المفاوضات المباشرة التي ستغنيه عن إشراك تسيبي ليفني زعيمة حزب كاديما في حكومته، وتعيد الفلسطينيين إلى دوامة وهم وسراب المفاوضات التي استنفدت جميع طاقاتهم وإمكاناتهم وأوصلتهم إلى حالة التشظي التي يعيشونها اليوم.
تصريحات محمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية توحي، حتى الآن، بأنه مازال متمسكاً بمرجعية لجنة المتابعة العربية المتمثلة في مهلة الشهور الأربعة التي أُعطيت للإسرائيلي لتقديم تنازلات على صعيدي الأمن والحدود، قبل إعطاء الموافقة على الانتقال للمفاوضات المباشرة. ولكن تصريحات عباس لم تعد بنفس القوة والثبات اللذين كانتا عليهما إلى ما بعد الاتفاق العربي سالف الذكر. فهنالك بالتأكيد داخل أركان السلطة من أغرتهم وعود نتنياهو الشفهية بتقديم ‘تنازلات مؤلمة’! في حال وافق الفلسطينيون على استئناف المفاوضات المباشرة. وهو ما يفسر مسارعة مركزية فتح لإعادة التأكيد على موقف السلطة الرافض للانتقال للمفاوضات المباشرة قبل تحقيق تقدم ملموس في قضيتي الأمن والحدود.
في كل ذلك دعونا نتساءل: ما الذي يبتغيه رئيس الحكومة الفلسطينية سلام فياض والمؤيدون لنهجه داخل أجهزة السلطة الفلسطينية وداخل حركة فتح التي تشكل الجناح السياسي للسلطة، من وراء هذا اللهث نحو الإسرائيليين؟
هم يريدون الانصراف لاستكمال إقامة بيئة اقتصادية ‘ملائمة’ للرأسماليين الفلسطينيين وجاذبة للمستثمرين الخليجيين والعرب للضفة الغربية لإنعاش وتدوير الحركة الاقتصادية هناك وصولاً إلى بناء اقتصاد كونكريت باعتباره نموذجاً تنموياً سهل التحقيق والبلوغ من بناء اقتصاد إنتاجي متوازن، وذلك من دون الاتعاظ من التجربة السابقة حين انصرفت السلطة الوطنية الفلسطينية إبان زعامة الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات بحماس شديد لبناء البنية الأساسية للدولة الفلسطينية الموعودة ومؤسساتها، معتقدة أن اتفاقات أوسلو و’ضماناتها’ الأمريكية الشفهية كافية لتحقيق هذا الطموح، فإذا بالطائرات والدبابات والجرافات الإسرائيلية تحيل كل ذلك في لمح البصر إلى ركام!
هذا ناهيك عن أن اقتصاد الكونكريت من أبراج وفنادق وملاه ومنتجعات ترفيهية لا تؤسس لاقتصاد مستدام لدولة هي بالأساس تعتمد على المعونات الأجنبية.
ومع ذلك، فإن الذي يلوح في الأفق هو أن الفريق المؤيد والمندفع للمفاوضات المباشرة والحصول على صفقة على غرار صفقة أوسلو وأخواتها، ربما تكون له في نهاية المطاف الكلمة العليا في تقرير مسار التفاوض مع الإسرائيليين، خصوصاً بعد تحول الضغط الأمريكي باتجاه السلطة الفلسطينية ورئيسها، وبعد أن أثبت الرئيس أوباما أنه لم يعد ذلك ‘القديس’ الذي احترف إلقاء الخطابات العاطفية المؤثرة في تركيا ومصر وإندونيسيا لدغدغة مشاعر العرب والمسلمين.
صحيفة الوطن
24 يوليو 2010