هذا سؤال يجب أن نوجهه للموهوبين في اللغات، الذين بوسعهم التحدث والقراءة بأكثر من لغة، وعلماء اللغات يمكن أن يسعفوا في تحديد أيها أكثر ثراءً وغنى بالتعبيرات، وأيها يبدو جرسها، عند التحدث بها، أكثر جمالاً.
كارل ماركس كان يقول إن دلالة تمكن أي إنسان من لغة أجنبية هو تمكنه من التفكير بها مباشرة، وطالما ظلّ المرء يفكر بلغته الأم ثم يترجم هذا التفكير إلى اللغة الأخرى فهذا يعني أنه لم يتمكن منها بعد.
لا أذكر من القائل ان على الإنسان أن يتقن لغة أجنبية واحدة، على الأقل، إلى جانب لغته الأم، لأن ذلك يثري بصيرته، ويمنحه فرصة للمقارنة بين نسقين من التفكير تمليه كل لغة.
الأديب الألماني الشهير غوته كان يشكو من أنه كُتب عليه أن يتعامل مع أسوأ لغة في العالم: الألمانية.
لكن أديباً مرموقاً ومولعاً باللغات مثل الأرجنتيني خورخي بورخيس يرى أن الألمانية لغة جميلة جداً، وأن الأدب الذي أنتجته أكثر جمالاً.
الكتّاب الكبار يواجهون هذه المشكلة مع اللغة التي يكتبون بها، لان إبداعهم يكمن في تطويع هذه اللغة واكتشاف ما تنطوي عليه من دُرر.
المدهش أن بورخيس اكتشف الشاعر الأمريكي الشهير والت وايتمان من خلال ترجمة ألمانية، وهذه الترجمة لديوان «أوراق العشب» حملت بورخيس على الاعتقاد بأن وايتمان ليس شاعراً كبيراً فقط، وإنما هو الشاعر الأوحد الذي يكاد شعره يختزل المسيرة الشعرية السابقة له.
وعلى خلاف الانطباع السائد عن عذوبة اللغة الفرنسية، فإن بورخيس يرى أنها تبدو له قبيحة إلى حد ما، لكن أدبها جميل رغم الولع بالمدارس والحركات الفكرية والفلسفية.
الأشياء عندما تقال بالفرنسية، يقول بورخيس، تبدو مبتذلة، الاسبانية أفضل منها على الرغم من أن كلماتها أطول وأثقل، وهو يقول ذلك من موقع كونه كاتباً أرجنتينياً عليه أن يتعامل مع الاسبانية التي يقول إنه يعي نقائصها.
إضافة إلى الاسبانية كان بورخيس يكتب بالانجليزية والفرنسية، وهو كتب «سوناتات» بهاتين اللغتين، لكنه يقر بأنه كتب بالفرنسية كما يكتب بها الأجانب، وقرأ بالايطالية «الكوميديا الإلهية» لدانتي في أكثر من اثنتي عشرة طبعة مختلفة، رغم أنه لا يستطيع التحدث بالايطالية أو متابعة فيلم ناطق بها.
تظل اللغة الأم عند كل مبدع مصيره الذي لا مفر منه، هذا ما شعر به بورخيس تجاه الاسبانية.
صحيفة الايام
24 يوليو 2010