إذا ما استثنينا المرجع الديني العراقي الراحل الشهيد آية الله العظمى محمد باقر الصدر الذي حال المناخ الاستبدادي الذي شهده العراق منذ أواخر ستينيات القرن العشرين دون أن يأخذ دوره الكامل الديني والسياسي في البروز على الساحتين العربية والإسلامية فإن الفقيد الراحل السيد محمد حسين فضل الله يكاد يكون المرجع الديني الشيعي العربي الوحيد الذي حظي بمكانة واحترام كبيرين لدى لفيف واسع من مختلف الأوساط السياسية والدينية ليس داخل طائفته فحسب بل لدى طوائف وديانات مختلفة في وطنه لبنان، وخارج وطنه بغض النظر عن توافقهم أو اختلافهم معه في جملة من المواقف والقضايا سواء على الصعيد الفقهي الديني أم على الصعيد السياسي. ولعل هذه الخاصية التي تفرد بها الراحل، ونعني بها التقدير والمكانة اللتين حظي بهما خارج طائفته، قلما توافرت في جل من رحلوا من نظرائه المراجع الشيعة سواء العرب منهم أم غير العرب منذ ثورة 1979 الإيرانية. صحيح ان ثمة شعبية وتقديرا يلمسهما المرء بهذا القدر أو ذاك داخل طوائفهم، لكن غالبا ما ينحصرا في النطاق الطائفي الضيق.
بهذا المعنى فلئن يحق لأي قومية أو ديانة أو طائفة أن تفتخر برمز كبير من رموزها في أي مجال من المجالات السياسية أو الدينية أو العلمية أو الثقافية أو الاجتماعية فإن دلالات هذا الافتخار لا تكتسب معناها الإنساني الكبير إلا بمقدار ما لعبه الرمز من انفتاح على الآخر وتخطي شرنقته القومية أو الدينية أو المذهبية وهذا ما كان يميز شخصية المرجع الراحل فضل الله والمشهود له بأنه كان شخصية وحدوية إسلامية وكان منفتحا على الآخر فقهيا ودينيا وسياسيا على اختلاف الانتماءات والمشارب السياسية والفكرية.
وكان فضل الله معروفا بتساميه فوق صغائر الأمور والضغائن والأحقاد، كما كان حذرا جدا من جره أو استدراجه إلى المهاترات أو الصدامات العنيفة مع منتقديه ومهاجميه سواء لمواقفه وآرائه الفقهية أم لمواقفه وآرائه الفكرية والسياسية، ولطالما رد باقتضاب لبق على تلك الانتقادات الهادفة إلى استدراجه إلى المسائل الخلافية الصدامية أو الصراعات الحادة، لكن مع تمسكه بآرائه ومواقفه المقتنع بها لا يفت في عضده استمرار الحملة العنيفة الظالمة بحقه مهما يكن تماديها وقسوتها.
ليس معنى ذلك أن آراء ومواقف وفتاوى فضل الله كانت دائما صائبة أو على حق، سواء بالمقاييس الدينية الشيعية أم بالمقاييس الدينية السنية، فيمكن الاختلاف معه فيها لكن شريطة ألا يصل ذلك إلى حد تكفيره والتشكيك في مرجعيته العليا أو مصادرة حقه في الاجتهاد وحرية الرأي والتفكير، ولئن صح ذلك على الصعيد الديني فمن باب أولى أن يختلف معه الكثير من العلمانيين في جملة من المواقف والآراء على الصعيد السياسي والحياتي وأن يختلف هو الآخر معهم في كثرة من الأفكار والآراء العلمانية، لكن وبكل المقاييس يمكننا القول إنه – كمرجع ديني – يعد رجل حوار وانفتاح بامتياز على الآخر لا يجنح إلى مصادرة حق الآخر في الرأي أو يضيق صدره به أو يلجأ إلى تكفيره أو تفسيقه مسوغا لافساد رأيه.
ومن اللافت تاريخيا أن قوى الإسلام السياسي الشيعي البحرينية الموالية للمرجعية الإيرانية الرسمية لم تستطع في أحداث التسعينيات سوى الاستعانة بفتاوى فضل الله الموثقة لتجويز التحالف مع اليسار شرعا لأنها تعرف مقدما صعوبة استحصال مثل هذا التجويز من المراجع الإيرانية. لكن للأسف دونما أن ترى فيه – فيما عدا هذه النقطة – مرجعا كبيرا جديرا بالتقليد أو المرجعية العليا يضاهي على الأقل مرجعية مرشدي الثورة الإيرانية الراحل والحالي اللذين تملأ صورهما معظم مآتم وحسينيات البلاد، هذا رغم تفوقه عليهما في سعة الأفق والفكر الديني والسياسي.
لقد كان المرجع الديني فضل الله شخصية دينية وسياسية كبيرة حظيت بشعبية في أوساط طائفته وباحترام وتقدير خارج طائفته لدى أوساط إسلامية وعربية وغربية، وهذا ما تجلى بوضوح ليس في جنازته الجماهيرية التي سار وراءها عشرات الألوف اللبنانيين فحسب بل في الشهادات والمراثي التي قيلت في حقه بعيد رحيله من قبل لفيف واسع متنوع المشارب من قيادات الدول والقوى والرموز والشخصيات العربية والإسلامية والدولية.
كما كان فضل الله معروفا بموقفه المبدئي الذي لا يعرف الهوادة أو الكلل في الحرب على إسرائيل والصهيونية وحليفتهما الكبرى الولايات المتحدة، وتأييده ونصرته الدائمة للقضية الفلسطينية وللمقاومة ضد الاحتلال في لبنان وفي فلسطين ومعاداة الاحتلال الأمريكي للعراق، وهذا هو السبب الرئيسي الذي دفع الولايات المتحدة وبريطانيا وغيرهما من الدول الغربية إلى وضعه على قائمة الإرهابيين، وهنا أيضا يمكن فهم الضجة التي أثارتها كل من واشنطن ولندن إزاء كل من المحررة الكبيرة في شبكة “سي.إن.إن” الأمريكية أوكتافيا نصر والسفيرة البريطانية في لبنان فرانسيس جاي وذلك لتعبير الأولى عن احترامها الكبير للمرجع الفقيد الراحل على موقع “تويتر” حيث تم فصلها من الشبكة بتحريض من جهات وعناصر صهيونية في الولايات المتحدة. أما الثانية، فرانسيس جاي، فلأنها وصفت الراحل فضل الله بأنه رجل دمث الخلق وان رحيله أحزنها وان العالم “بحاجة إلى مزيد من الرجال من أمثاله الذين يريدون التواصل بين الديانات” وأجبرت السفيرة على حذف هذه الرسالة من مدونتها على موقع الخارجية البريطانية والاعتذار عنها تحت ضغوط إسرائيلية وصهيونية أيضا.
وبطبيعة الحال ما كان فضل الله ليحظى بتقريظ تينك الشخصيتين النسائيتين الأمريكية والبريطانية رغم عدائه الشديد لسياسات بلاديهما لولا أنه – كما ذكرنا – رجل حوار من الطراز الأول جدير بالاحترام من قبل كل من عرفه أو عرف أفكاره عن قرب، أيا تكن انتماءاته القومية أو الدينية أو المذهبية وأيا تكن مشاربه الفكرية والأيديولوجية.
وغدا نكمل.
صحيفة اخبار الخليج
22 يوليو 2010