يشكل رحيل العلامة والمفكر الديني العربي اللبناني الكبير آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خسارة فادحة للساحتين السياسية والدينية سواء على المستويين اللبناني والعربي، أم على الصعيد الاسلامي بوجه عام وعلى المستوى الشيعي العربي بوجه خاص، ولربما احتاج الشيعة العرب إلى وقت طويل حتى يدركوا معنى وحجم غياب مرجع ديني عربي كبير عن ساحتهم السياسية والدينية معا لطالما أغمطوا حقه طوال حياته الفقهية والسياسية.
ففي ظل حالة البلبلة والضبابية الدينية – السياسية والفكرية التي تسود هذه الساحة وانقسامات قواها السياسية والدينية منذ الثورة الايرانية قبل 30 عاما ونيفا، من المشكوك فيه ان يستيقظ أو يفيق الوعي أو العقل الجمعي لنخب وقوى الاسلام السياسي الشيعي العربي فجأة ليدرك قيمة ومكانة فضل الله ويرد الاعتبار إليه وإلى ما خلفه من تركة فقهية وفكرية لا تقدر بثمن في عظمتها الاستثنائية كان يمكن استفادة الشيعة وساحة الاسلام السياسي الشيعي منها فقهيا وسياسيا أيما استفادة لولا حالة الضبابية والتشويش التي مازالت تتلبسهم ولاسيما في ظل التأثير والنفوذ الهائلين للنظام الايراني – فقهيا وسياسيا – في صفوف غالبية الشيعة العرب على المستويين النخبوي والجماهيري العام.
فطهران ومنذ انتصار ثورة 1979 دأبت بانتظام وعلى الدوام على الحيلولة دون ظهور مرجعية شيعية عربية كاريزمية عليا يلتف حولها الشيعة العرب وتنافس المرجعية السياسية والدينية الحاكمة في ايران، كما استفادت أيما استفادة من عدم استعادة الحوزة الدينية في مدينة النجف الاشرف العربية العراقية عافيتها لا في ظل النظام السابق ولا في ظل النظام الحالي المحمي بحراب المحتل الامريكي.
ومن ثم يمكن القول بكل اطمئنان ان طهران، أو حوزة قم المؤتمرة بامرتها، تقف بصورة مباشرة أو غير مباشرة حول جل البلبلة واللغط اللذين استمرا طويلا في أوساط الشيعة العرب حول مرجعية الفقيد الراحل فضل الله، وحول فتاواه، وحول مواقفه وآرائه السياسية والدينية أيضا.
وبقدر ما تثير الارتياح تلك الحفاوة الجماهيرية والنخبوية الدينية المنقطعة النظير بالفقيد الراحل على الساحة الشيعية التي بدت مفاجئة وغير متوقعة قياسا للحصار السياسي والفقهي المضروب على فضل الله والتشكيك في اهليته للمرجعية وحدة مراتب وصنوف الاساءة إليه بقدر ما يصعب اعتبارها – الحفاوة – مؤشرا على كسر الحصار المضروب عليه أو على الادق على تراثه الفقهي والفكري بعد رحيله الفاجع.
ويمكن القول إن قسما من الذين رثوه واحتفوا بسيرته الجهادية والفقهية كانوا تحت تأثير تأنيب الضمير لما مارسوه بحقه من عنت وايذاء تجاوز كل حدود النقد، ولطالما اشتهر العرب بهذه العادة الذميمة، أي النزوع العاطفي الجامح مع امواتهم ويتناسون ما ارتكبوه من اساءات بحقهم مراهنين على عطب الذاكرة الجماهيرية وهم يفعلون ذلك، ويستوي في ذلك مثقفو وكتاب الاسلام السياسي الشيعي مع بعض المراجع والمشايخ الدينيين الشيعة.
أما الجزء الآخر من المحتفين والراثين لفضل الله فهم ممن لا يجدون أي غضاضة أو تحرج في ممارسة الرياء الصريح بتدبيج المراثي خلف جنازة كل عالم دين حتى لو كان مثيرا للجدل كالفقيد الراحل فضل الله، ويدخل في عداد هؤلاء بالطبع المبعوثون الذين ارسلتهم طهران الرسمية لتعزية ذويه والسير في جنازته ببيروت وما صدر في طهران نفسها من تصريحات او بيانات رثائية لبعض رموزها أو جهاتها العليا الرسمية.
لكن تبقى الفئة الصادقة هي التي تمسكت بموقفها الثابت العدائي لفضل الله وهي التي التزمت الصمت وبضمنها عدد من الفضائيات الشيعية والمشايخ الذين رفضوا اقامة مجالس العزاء عليه في بعض البلدان العربية ومنها البحرين، ومن ثم نأت عن نفسها جميعا عن محفل الرثاء الريائي.
ولئن كانت ثمة مجموعة من العوامل الرئيسية المتداخلة هي التي كانت وراء تحامل ووغر صدر طهران على آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله وتأليب اتباعها من “المراجع” والمشايخ وكتاب الاسلام السياسي الشيعي عليه فانه يمكن القول إن ثلاثة تبرز بين تلك العوامل الرئيسية:
الأول: وقوفه العقلاني الوحدوي النزيه من إحدى مرويات الشيعة المشكوك في صحتها حول الادعاء بهجوم الخليفة عمر بن الخطاب على السيدة فاطمة الزهراء “ع” وتكسير اضلاعها والتسبب في اجهاضها رغم انه لم ينف الرواية ولم يؤكدها، الامر الذي استغلته طهران الرسمية وحوزتها في قم الذيلية لها واستخدام نفوذها على اوسع نطاق في صفوف الشيعة العرب ومراجعهم للتشكيك فيه وتفسيقه والطعن واتهامه بالتنكر لظلامية الزهراء “ع”، ولاسيما ان موقفا كهذا من شأنه ان يضيق الفجوة الدينية بين الشيعة واخوانهم السنة، وهذا ما لا تريده طهران لانه يهدد مصالحها وزعامتها السياسية والدينية للشيعة في العالم. الثاني: رفضه الانقياد للزعامة السياسية والفقهية لطهران وتمسكه بالنهج المستقل في مواقفه الدينية والسياسية، بما في ذلك على وجه الخصوص رفضه نظرية ولاية الفقيه على نحو ما يطبقه النظام الايراني لفرض سيطرته الاستبدادية دينيا وسياسيا ليس داخل ايران فحسب بل على عموم الساحة الشيعية في العالم ما امكن ذلك ديماغوجيا سبيلا.
الثالث: اعتماده الطريقة الفلكية لتحديد غرة رمضان وغرة شوال وهي طريقة علمية دقيقة صائبة بدت تثير ضيق صدور المراجع بها الذين يعتمدون على العين المجردة أو المسلحة ويبتغون استقطاب أكبر شرائح ممكنة من الشيعة خلفهم كمؤشر للدلالة على حجم شعبيتهم وحيث ان هذه الطريقة تتوافق في اغلب الاحيان مع اثبات رؤية هلال رمضان أو شوال لدى السنة.
صحيفة اخبار الخليج
21 يوليو 2010