في إحدى مسرحيات الرحابنة ينشد نصري شمس الدين: «سيف المراجل حِكَمْ/ شيلوا الدوا والقلم/ فَردك ع خصرك شاعر/ يمحي ويكتب حكم».
هذا التمجيد الساخر لمنطق المسدس، يومئ إلى رغبة ملحوظة في الذهنية العربية، في التماهي مع القوة، وهي لم تقف عند حدود الأناشيد والأغاني ورقصات الدبكة وحسب. إنها إذ تتكئ على ميراثٍ حافلٍ من الاعتزاز بالفروسية والشجاعة، تتقدم لتحيل كل ما هو غير قوة إلى هامش: ف «السيف أصدق أنباء من الكتب»، و«سيف المراجل حكم».
لكن هذا الأمر في وجهيه: التمجيد للقوة من جهة، وتهميش غيرها من جهة أخرى، لم ينتج عنه سوى تهميش القوة ذاتها، التي لم نعد نملكها إلا على شكل عنف داخلي مُدمر، كثيراً ما اتخذ شكل الحروب الأهلية أو شكل عنف يمارس على الذات. إنها القوة الغاشمة، لا القوة البناءة الهادفة إلى انتزاع الحق المستلب.
ليس هذا النوع الزائف من التماهي هو وحده ما نعانيه، فهناك أيضاً التماهي مع الآخر المتفوق، الغرب في حالنا الراهنة، وهو تماه انطلق في البدء على شكل رغبة مشروعة عبّر عنها رواد النهضة العربية منذ أواخر القرن التاسع عشر في اللحاق بالعالم المتقدم.
لكنه اكتسب مع الوقت صورةً من صور الاستلاب أمام النموذج المتفوق، الذي ينسى أسراهُ الظروف والملابسات التاريخية التي صنعت تفوقه، ويسعون إلى إقحام هذا النموذج في بيئة مختلفة في ظروفها وسياقاتها وخصوصية تطورها، وكأني بابن خلدون في «المقدمة» قد عبّر عن ذلك حين قال: «المغلوب مولع بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده».
وليست رغبة التماهي مع الماضي بأقل خطراً من رغبة التماهي مع الآخر المتفوق، فإذا كان هذا الأخير غربة في المكان، فإن الأول غربة في الزمان، على ما ذهب أحد مفكرينا، لعله فؤاد زكريا. وكلاهما يقومان على منطق متعسف يُجَير للنفس شروط النجاح التي حققها الآخرون، في مكان آخر، أو في زمان آخر، حتى لو كان هؤلاء الآخرون هم أسلافنا أنفسهم، الذين بنوا حضارة قوية لأنهم استوعبوا شروط الزمن الذي عاشوه.
إن لم نستوفِ شروط ما نرغب في التماهي معه، ستظل رغباتنا عند حدود الأغاني التي تمجد القوة، على شكل فولكلور لا يفعل أكثر من إثارة البهجة والطرب في النفس ليس إلا.
صحيفة الايام
21 يوليو 2010