تميز مونديال كأس العالم في جنوب افريقيا 2010 بسمة غريبة، كادت تتغلب فيه نزعة الشعوذة على نزعة الصدفة والمنطق والظروف بشقيها الذاتية والموضوعية، التي تحدد دائما عناصر الهزيمة أو الفوز، اما الرجم بالغيب مع وضد، فتلك نظرية شعبية قديمة لدينا عندما كانت تحمل المرأة فيقولون اذا مو ولد بنت، وطبعا هناك خيارات أخرى، غير ان الاخطبوط بول في دورة مونديال جنوب افريقيا، تملك صحافة العالم، وجعل بعض العقول تعيد حساباتها «الفلكية» طالما هناك في الغرب ظاهرة «بول الاخطبوطية» بل والبابا بولس ربما كاد ان يباركه لكون الاسماء متشابهة، وحسب تقاليدنا كان «سميه» في هذه الدورة مشهورا اكثر من أي نجم سينمائي او ثقافي ورياضي، فالاخطبوط لعب بعقل ونفوس من اصيب بلوثة الميتافيزيك الجديد الرياضي، لمجرد ان الاخطبوط قال ان الفريق الفلاني سينتقل وسيذهب الى هناك، وطبعا لم يخلق لنا الاخطبوط معجزة كما هي تقديرات المعجبين بالمعجزات، بحيث يرسل الاخطبوط او يمضي في اتجاه بلدان خرجت من الدورة منذ الاسبوع الاول.
في البحرين انقسم الناس مؤيدين ومندهشين من توقعات بول التي «ما تخرش الميه» فيما حّول البعض الاخطبوط الى حالة تندر وضحك وتعليق، وان كان بعضهم بات مؤمنا بجذوره القدرية في لحظة انشداد الحواس الانسانية للعبة مثيرة بالانفعال مثل كرة القدم. لهذا نحن بحاجة الى «خثاك» بحريني يصبح في دورة الخليج والدورات العربية والاسيوية مشروعا سياحيا، مثيرا بحيث يتحرك الخثاك في اتجاهات كثيرة منطلقا من مياه الخليج حتى المحيط الهندي، في طريقه للمحيط الباسيفيكي، وهناك بإمكانه قراءة «الكف» على طريقة اخطبوطية بثماني ارجل (وللمعلومة كلمة اكتوبوس هي كلمة اغريقية معناها ثماني ارجل) وبامكان الاخطبوط ان يمر من باب المندب عبر البحر الاحمر داخلا الى قناة السويس نحو البحر الابيض المتوسط، وبذلك يكون على تماس بكل جغرافية العالم العربي في حالة قيام دورة رياضية عربية بجدارة.
بامكان الخثاك البحريني في تلك الرحلة ان يتجنب نفث «الحبر الاسود» في مياه الخليج، باعتبار ان مياهنا والحمدلله مشبعة بسواد ناقلات النفط فلا يحتاج بحرنا حبر خثاكنا «المبارك» وانما العكس هو الصحيح، ان يتجنب الخثاك تلوث ناقلات النفط لكي نستطيع التمتع بخثاك طازج خال من الاورام السرطانية او غيرها من امراض بيئية لا تحصى.
لنبارك نحن خثاكنا، بشتى السبل وننفق عليه اموالاً طائلة للاعلان، اذ نجاحات الخثاك هي جزء من نجاحاتنا في ابداع افكار «خثاكية» لا يشاطرنا فيها بول الاخطبوط، وان كنا في النهاية ننتمي لعائلة واحدة من تلك الاسماك البحرية.
في غمرة حماس الناس للدورة في بلد نجح في الغاء النظام العنصري، الاهتمام بهموم ذلك الشعب والبلد، والذي صرف على اعداد هذه الدورة 2.8 بليون جنيه استرليني كجرد اولي، في بلد تحدياته كثيرة في مسائل الجريمة والتعليم والاسكان والفقر، فنسبة الواقعين تحت خط الفقر تمس نصف سكان جنوب افريقيا والبالغ عددهم اكثر من 48 مليون نسمة، حيث شكلت 47% وبمعدل بطالة عالية تصل الى 24%، واذا ما كانت الجريمة اليوم في جنوب افريقيا، تعتبر من اعلى معدلات الجريمة في العالم، فانها كانت اعلى بكثير قبل عام 1994، اذ من خلال تلك المفارقة نلمس مديات تلك الجرائم وسط سكان سويتو وضواحي جوهانسبيرج وغيرها من المدن البعيدة عن دائرة ومركز العاصمة. ومع ذلك وجدنا ان كأس العالم من جوانب اخرى حقق نتائج عدة في توحيد الشعور العام لدى سكان البلاد بانهم امة واحدة وفي مجتمع جديد انتقلت فيه الديمقراطية السلمية بكل هدوء، فدفنت الظاهرة الاستيطانية الكولونيالية القديمة، والتي حكمت البلاد ما يقرب من 400 عام.
كان للدورة أثرياء وفقراء تحلقوا في زمن العولمة في مكان واحد كقرية كونية، حيث برهنت العولمة على ان الانسانية في لحظة ما بامكانها ان تلتقي حول مائدة كبيرة مختلفة ومتنوعة، حيث في لحظة مباريات كأس العالم، صارت العقول والاعين ممحورة في ملعب واحد، فيما اختلفت البلدان والثقافات والاعراق، ولكن بيت الانسانية المتعدد الطوابق جعل من تلك الحالة معولمة بامتياز نحو مونديال متعاظم في تأثيره وحضوره.
كانت الفيفا السلطان المالي والرياضي الجديد المحتكر لصناعة الاعلان في هذه اللحظة، ومع ذلك حاولت بعض الشركات الهروب من هيمنتها الاعلانية عندما فرضت الفيفا شروطا بأن لا تستخدم عبارة «كأس العالم» بل ولا حتى 2010 من جهة اي شركات اخرى، ولكن احدى شركة الخطوط الجوية في جنوب افريقيا «كولولا كوم» التفت على تلك الهيمنة عن طريق اعلان كتب بالطريقة التالية «الخطوط الجوية الرسمية للشيء الذي تعرفونه» فاصرت الفيفا على ازالة تلك الاعلانات. ولم ترتدع كولولا كوم، فوضعت اعلانات تشير الى «الشيء الذي يحدث في الوقت الراهن». بعض محرري صحافة جنوب افريقيا انتقدت الفيفا «التي كسبت الكثير من الاموال، وكان ينبغي ان تذهب هذه النقود للمحرومين، للمساعدة في خلق وظائف». ان اجمل من وصف هيمنة الفيفا هي صحيفة نيويورك تايمز بنعتهم «بالاسياد المفروضين» لكرة القدم الدولية، والمتوقع ان تحصل على بليوني جنيه استرليني من كأس العالم.
صحيفة الايام
20 يوليو 2010