لوهلةٍ يبدو شعار «موت الايديولوجيا» جذاباً ومبهجاً، كأنه احتفاء بسقوط الجمود العقائدي والدوغما الفكرية على أنواعها، لكن بقليل من التمحيص سنجد أن من يرددون هذا القول يريدون إزالة الحدود بين القيم والأفكار، فبعض من عرفوا في أزمنة سابقة بأنهم من غلاة الأيديولوجيين، الذين اختاروا لأنفسهم موقعاً قصياً، لا بل الموقع الأقصى الذي لا بعده سوى السقوط في الهاوية، باتوا اليوم من غلاة المنظرين بموت الأيديولوجيا.
وباتت مفردة الأيديولوجيا، التي لا يعدو المقصود بها في أكثر الترجمات مباشرة وحرفية: «علم الأفكار» حين ترد على ألسنتهم أشبه بالشتيمة توجه لمن لايزالون يرون أن الأفكار تتصارع، وأن الحوار ذاته شكل من أشكال السجال الجدي بحثاً عن الحقيقة، وأن بين الفكرة ونقيضها توجد فواصل وحدود لا يمكن محوها بممحاة من يريد إقناع نفسه، والآخرين معه، أن كل الأفكار كلها واحدة، لا يوجد بينها ما يفرق.
على ضفة أخرى فان بعض المناضلين السابقين المبتهجين بالتحاقهم بالعربة الأخيرة في قطار العولمة، إذا ما استعرنا التعبير الوارد في الصفحات الأخيرة من كتاب فرنسيس فوكوياما: «نهاية التاريخ وخاتم البشر» يرددون قولاً مشابهاً ليثبتوا لنا أنهم الآن في خانة «الديجتال» بالقياس لرفاقهم الذين باتوا، في نظرهم، «دقة قديمة»، لأنهم مازالوا على ثوابتهم.
الحدود بين الحق والباطل لن تزول أبداً مهما سعى هؤلاء لإيهامنا بالوهم الذي تلبسهم، بعد انتقالهم للموقع المريح، لأن هذه الحدود مرتبطة بموضوع العدالة الاجتماعية، التي ستظل تلهم أفئدة وأذهان وضمائر الساعين من أجل التغيير.
وفكرة التغيير لن تفقد وهجها ومشروعيتها طالما كانت هناك أراض يحتلها غزاة ومستوطنون، وطالما كانت لقمة العيش الكريمة عصية على ملايين البشر الذين يصنعون الخيرات المادية لتنعم بها القلة وتحرم منها الأغلبية.
لن تنتفي الحاجة إلى التغيير، القائم على برنامج اجتماعي سياسي تاريخي ينطلق من الإيمان بمبدأ المساواة، يعول على دور الدولة في تنظيم الحياة الاقتصادية والخدمات العامة وخلق فرص عمل، والوقوف إزاء سياسة السوق المتطرفة، ونقد الأفكار البالية والتقاليد المتحجرة وتبني موقف إيجابي من النقلات التي يمر بها المجتمع الإنساني في زمن العولمة، ولكن من موقع الانحياز لفكرة الحق، ورفض هيمنة ثقافة الإمتاع الرخيصة والاستهلاك والتحكم الضار لمنطق السوق في مصير الثقافة الجادة.
في العملية المعقدة التي نمر بها يحدث فرز بين اتجاهات محافظة فكرياً وثقافياً، وأخرى تنزع إلى التجديد والتغيير، وبالتأكيد فإن المثقفين ينتمون إلى القوى الأكثر إدراكاً لقيمة المعرفة في التحرر الإنساني، ولأهمية حرية التفكير والتعبير ورفض الطائفية والمذهبية والتعصب والتطرف الاقصائي التكفيري.
مهما بدا الوضع معقداً وسوداوياً وحاملاً للبعض على تغيير جلده، على جري الحرباءة، فإن التطورات التي تختمر في ثنايا مجتمعاتنا العربية تدفع، في الأفق التاريخي المنظور نحو تبلور مواقف أكثر وضوحاً من قضية الحقوق والحريات، ومن الدور المناط بمؤسسات المجتمع المدني.
سيحمل المستقبل فرزاً فكرياً وسياسياً بين قوى التغيير الديمقراطي والقوى المراهنة على الأمر الواقع، وفي هذا هناك من الأدوات ما يمكن التعويل عليه: المعرفة ومستوى التعليم، الخبرة السياسية والمصالح الحيوية للناس.
صحيفة الايام
20 يوليو 2010