حاولتْ أعمالٌ أدبيةٌ عديدة أن تتغلغلَ في التجربة اليمنية الاجتماعية ذات الجذور العريقة، والجراحات الكبيرة، لكنها لم تقاربها إلا من خلالِ سطوح الأشياء، ولعل حبيب عبدالرب سروري الوحيد من الكتاب اليمنيين الذين قيل عنهم إنهم غاصوا في التجربة الوطنية لبلده بعمق كبير، وبفرادة أسلوبية تعبيرية.
ورغم انه دكتور في علوم الكومبيوتر ويعيش في فرنسا استاذاً في المعهد القومي للعلوم التطبيقية في إحدى المدن الفرنسية فإنه كتب عدة روايات منها(الملكة المغدورة) وصدرت بالفرنسية، و(طائر الخراب) و(دملان) وأعمال اخرى.
تقول عنه موسوعة(ويكيبيديا):
“تظهر مدينة عدن بكلِ تجلياتِها في روايات حبيب، وتكون مدخلاً لليمن، فعلى الرغم من غربتهِ الطويلة، فانه لم يفقدْ ارتباطه ببلاده، فلاتزالُ اليمنُ تشكلُ عالم حبيب الروائي.
ثيمتهُ الأساسيةُ هي العشق، ومن هذه الثيمةِ يتفرعُ عالمُ حبيب الروائي ليرصد تحولات اليمن في ربع القرن الماضي. وفي روايته الأخيرة طائر الخراب، يطرق حبيب المحرم والمسكوت عنه بقوة، فيتحدث عن زنا المحارم، والمفاهيم القبلية للشرف والبكارة.
أحدثت روايتهُ الأخيرة دوياً فائقاً، فكانت حجراً حرك ركود الساحة الأدبية اليمنية بشكل خاص، والعربية عموماً بكم الجرأة في طرق المواضيع المسكوت عنها في الواقع.
في رواية الملكة المغدورة تحدث حبيب عن واقع اليمن الجنوبي إبان الفترة الشيوعية. أما في ثلاثيته دملان فيرصد حبيب اليمن كلها عبر مساحة العمل الروائي الشاسعة، وعبرَ اختلاقِ مملكةٍ خيالية هي دملان الواقعة عند سفوح الهملايا. ورصد رحلة الراوي منذ بداياته في عدن مروراً بمكوثه في فرنسا وحتى عودته إلى اليمن الجديد، مستوحياً التراث الشعبي اليمني، والقصص الخرافية التي يحفل بها وعيه الجمعي كقصص الجان، ومستعيداً ممالك وعيه الجمعي مثل تنكا بلاد النامس الشهيرة”. انتهى.
إن روايته (دملان) كبيرة فقد بلغ عدد صفحاتها577، وصدرت عن دار الآداب سنة 2009، ويملأ الكاتبُ الروايةَ بالسخريةِ من عالم اليمن الاجتماعي، ورغم انه يوهمُ القارئ في البداية انه مسافر للنيبال، فإن هذا القناع بسيط وواضح، ويشكل الراوي السارد عالماً قصصياً حول ذاته، فهو المحور، أما الواقع فهو شظايا تدورُ حوله وحول مغامراته الغرامية الفاشلة، ومن البداية نلمحُ هذا التضادَ بين روايةٍ تريدُ أن تقدمَ تجربةَ بلدٍ لكنها تقدم تجربة شخص وعالمه الدراسي وتخيلاته الواسعة ومنولوجاته الطويلة، والشخوص التي تظهر في حياته بشكل وميض.
إنه يسخر ويثرثر عن اليمن واليمنيين: كيفية عيشهم البسيط، وأطعمتهم، ومقاهيهم، والتخلف الذي يلم المؤسسات كافة، لكنه لا يطرح ذلك من خلال تجسيدات فنية موضوعية، بل من خلال رويه الحر، الذي يتضخمُ حول ذاته، ويضمحل حين يأتي للوطن والناس.
حين يتكلم عن نفسه نعرف أنه ابن أحد شيوخ الدين المحدودين في فهم الدين الذي يتصارع مع شيخ دين آخر للسيطرة على المسجد والخطبة فيه، ويتمكن السارد الراوي وهو الفتى من أن يحل محل والده في هذه الخطب وبجدارة، مما يجعل والده مهيمناً على هذا المسجد، وبعد هذا فإن الراوي السارد ينضم للحزب الاشتراكي من دون أن يقدم أي تجربة شخصية ملموسة لهذا الانضمام، لكنه يملأ الكتاب سخريةً من الاشتراكية والحزب والمعسكر الاشتراكي.
ورغم حضوره الشبابي في هذا الحزب لكن ليس ثمة تغلغل في التحليل للتجربة من الداخل، وعرض نماذج ومحاور في ذلك، ويعوض عن هذا بصفحات سياسية تقريرية ضد التجربة، خاصة في صفحة 312 وما بعدها؛(عرّتْ بينهما الوجهَ القبلي القبيح لنظامٍ سياسي تشدق بأحدثِ وأنبل الأفكار التقدمية والمبادئ السامية قبل أن يغتال إلى الأبد أحلامَ كثيرٍ من الأبرياء والمخلصين).
إنه في الوقت الذي يدير الرواية كلها حول ذاته داخل وخارج اليمن، ويسرد حول الشخصيات التي تلتصقُ به، فإنه لم يحلل لماذا حدث ما حدث من كوارث كبرى؟ وهل القارئ مهتم بعلاقات حب وهمية تتكرر بأشكال مختلفة؟
الروائي يمتلك أسوباً عفوياً مرحاً ساخراً متفجراً بالصور، لكن لا يشكل تنامياً قصصياً متصاعداً يجمع بين الأنا والواقع، بين السارد والعالم العميق من حوله. ففي الوقت الذي يضع عنوان الرواية باسم البلد(دملان) يجري كل شيء حول غرامياته الواقعية البسيطة وغرامه الخيالي بامرأة يتصورها ويوجدها ويدخلها ويدخلُ عالمَ الكتابة في عالم الكمبيوتر.
فعلى الرغم من ثراء الواقع وبروق الشخوص التي تمر على هذا المسرح الذاتي، فإنها كلها تومضُ هاربةً من ترك أثر لشيء عميق باق.
فحين يدرس في فرنسا ويعشق واحدة يعشقها زميلهُ أيضاً وتُحل العلاقة بقرعةٍ تجرى بينهما! ونرى أعمال الطلبة السياسية الكثيفة من توزيع المنشورات واللقاءات والاحتفال بالجريدة اليسارية الفرنسية وعبر مشاهد كثيرة، لكنها كلها لا تصب في محور الرواية الضائع.
وكل هذه الفصول عن الدراسة والشعارات السياسية التي يسخر منها سابقاً ولاحقاً، تبدو مثل عمليات التلصيق في جسمٍ غير روائي، حيث يتحول العمل إلى اعترافاتٍ ذاتية ومقالاتٍ ساخرة صحفية عابرة.
عندما تقرأ مثل هذا العمل الكبير الحجم تريدُ أن تدخلَ جذورَ اليمن، لماذا يحدث فيه ما يحدث من مذابح وحروبٍ وصراعات لا تنتهي، لكن الكاتب لا يتغلغلُ في ذلك، رغم الكم من المتع الفنية التي يبثها في سردهِ من سخريةٍ ومن نماذج مضحكة ومن لهجاتٍ يمنية وسرد شعري فصيح وعرض أمثال وفكاهات، لكن ثمة غربة كبيرة بين المؤلف – الراوي وبين اليمن، إنه يتكلم عن ذكرياتٍ شخصية، ولم ينتجْ عملاً حفرياً روائياً في هذا البلد المنكوب. لقد عرفنا صعوده الدراسي الكبير، ولم نعرفْ سقوطَ اليمن في الحضيض العسكري وعالم الحرب الأهلية!
الكتاب يقدم مادة خاماً وكياناً لامعقولاً ساخراً، لكن الكاتب يتكلم عن نفسه ولا يتكلم عن موضوعه.
صحيفة اخبار الخليج
19 يوليو 2010