الرقيب هو نحن، حتى وإن كان الرقيب في الأصل خارج ذواتنا إلا أنه مع الوقت احتلنا، سكننا، حتى بتنا هو وبات هو نحن. منذ أصغر وأبسط تفصيل في حياتنا اليومية، منذ أن نصحو حتى ننام، وربما حتى حين ننام يحضر الرقيب الذي هو في جزء منه صنعة ما هو خارجنا، لكنه في جزء آخر، لا يقل أهمية في النصف الآخر من الأمر صنعتنا نحن.
نكرر القول: لسنا من افتعل الرقيب ومن أوجده. ولكننا شركاء في صنعه، حتى وإن كنا ضحاياه، أسمعتم كيف تتماهى الضحية مع جلادها، ذلك هو حالنا مع الرقيب. قد يغفو الرقيب الخارجي، قد تأخذه سِنة من نوم، لكن قرينه في داخلنا يقظ وحاضر ونشط.
لا أعرف كيف يميز القاموس اللغوي بين المراقب والرقيب، لعلهما يعطيان في اللغة الدلالة ذاتها، ولكني لأمر ما أظن أن المراقب هو الشخص المتأمل، الشخص الذي يراقب الظواهر والناس في رغبة منه، عميقة، للمعرفة، وللاكتشاف وللمقارنة ولاكتساب الخبرة.
أما الرقيب فإنه يحمل في اسمه الدلالة السلبية، هو الذي يضعك تحت المجهر لا رغبة في التعرف على ذاتك، في الاقتراب المرهف من أحاسيسك ومشاعرك والبواعث العميقة لسلوكك كما حال المراقب، وإنما لإرباكك، لعد أنفاسك وحصر خطواتك، فما ان يسكنك الشعور ذاك حتى لا تبارح مطرحك.
أن تكون مكشوفاً أمام الآخر الذي هو نصفك، الذي هو أنت في صيغة من الصيغ فإن مساحة حريتك، عفويتك، انطلاقك تبقى مشدودة لأغلال ثقيلة، ما أكثر ما تنوء بحملها.
كي نبحر بعيداً، كي نكتشف مرافئ وعوالم جديدة، علينا أولاً أن نحاصر رقيبنا الداخلي، الرقيب الذي صنعناه بأنفسنا تماهياً مع الرقيب الخارجي، والحرية تبدأ من تحررنا الداخلي، من حريتنا كذوات، من رغبتنا في المغامرة والاكتشاف وولوج المجهول.
الرقيب الداخلي هو قيدنا الأقوى، هو أسرنا الذي ما أكثر ما اخترناه بإرادتنا، ولكي نحرر هذه الإرادة، علينا فك هذا الأسر، تحرير المعاصم من آلام قيوده والذهاب بعيداً إلى المتاهات المفضية إلى الفضاء الحر، إلى حيث النفس في فطرتها، في البراءة التي جبلت عليها، إلى الحرية التي ولدتنا أمهاتنا عليها قبل أن يستعبدنا الرقباء الذين صنعوا أنفسهم أو الرقباء الذين صنعناهم نحن أنفسنا وجعلنا من دواخلنا سكناً لهم.
صحيفة الايام
19 يوليو 2010