ماذا نفعل برسائل ليست لنا، وقعت في أيدينا بطريق الصدفة أو الخطأ؟ هل نملك الحق الأخلاقي في فتحها وقراءة محتوياتها، والاطلاع بالتالي على خصوصيات أشخاص آخرين ليس من الجائز الإطلاع عليها، خاصة وإن المرء حين يكتب رسالة لشخصٍ آخر، تربطه به علاقة خاصة، ينطلق من القناعة أن لا أحداً سوى الموجهة له الرسالة سيقرأها أو يطلع عليها، لذا تأتي الرسائل تلقائية، عفوية، متحررة من القيود التي يضعها المرء أمام نفسه حين يخاطب جماعة، لا فرداً بعينه يعرفه حق المعرفة، أو هكذا يفترض.
هذه الفكرة تشكل محور التساؤلات التي ترد في قصة قصيرة للكاتبة نادين غورديمر، من جنوب أفريقيا والحائزة على نوبل للآداب عام 1991، حين يحدث لسيدة تشتري صندوقاً لحفظ الأدوات والوثائق من محل لبيع الأشياء المستعملة، ولدهشتها وجدت داخل الصندوق رزمة من الرسائل مربوطة بشريطٍ واحد، وموجهة كلها إلى امرأة بعينها، فاحتارت ماذا تفعل بشأن هذه الرسائل، وهاتفت أصدقاءها تسأل نصيحتهم.
وبالطبع لم يكن من الممكن الأخذ بالنصيحة التي تقول: نعيدها إلى أصحابها، فالعجوز صاحب محل الخردة نفسه لا يعرف لمن يعود هذا الصندوق أصلاً، فيما قالت صديقة أخرى: أقترح أن تحرقيها! ماذا يمكنك أن تفعلي غير حرقها. لكن صديقاً آخر مغرماً بجمع الكتب نصح السيدة: اقرئيها! بالطبع اقرئيها!
وهذا ما فعلته السيدة بالضبط، التي قضت يوماً بكامله لقراءة ثلاثمائة وسبع رسائل هي مجموع ما في الرزمة من اوراق، لتفاجأ بذلك الدفق الهائل من العواطف والمشاعر والتفاصيل بين امرأة ورجل جمعها الذكاء والنباهة.. والحب بطبيعة الحال..!
ما قرأته السيدة في هذه الرسائل يُكذب ما تذهب إليه أغنية أجنبية راجت في الثمانينات تقول: «في الرسائل لا يقال كل شي»، نعم هناك فرق بين أن نسكب المشاعر في رسالة وبين أن تمتلئ العين وتقر برؤية من نكتب له، لكن لا وسيلة كالرسالة قادرة على حمل الشحنة العاطفية لإنسانٍ ما تجاه من يجب أو يقدر أو يحترم.
ولعل هذا قد يفسر، ولو جزئياً، ذلك القلق والتوتر الذي يصاب به كل من ينتظر رسالة يتوقع وصولها، وكيف تذهب به الظنون والأشواق مذهبها حين يتأخر وصول هذه الرسالة، المشابه لذلك القلق والتوتر الذي أصاب «جنرال» غابرييل ماركيز في روايته «ليس لدى الجنرال ما يكاتبه» وهو في مسعاه اليومي إلى الميناء بانتظار قدوم السفينة التي تحمل البريد، وتأتي لكنها لا تحمل له رسالة. وحتى في عصر السفر السريع والاتصالات الهاتفية الميسرة ستظل الرسالة أكثر دفءًا وحميمية وقرباً للقلب والنفس.
يحكى أن الكاتب المعروف أنطون تشيخوف، سافر إلى ألمانيا بناء على نصيحة الأطباء. وهناك سكن في مبنى قبالة مكتب البريد في إحدى المدن، ومن غرفته المطلة على المبنى، كان يلاحظ كيف أن الناس يأتون من مختلف الجهات حاملين أفكارهم المودعة في الرسائل، وكان تشيخوف يهتف من أعماقه: «هذا رائع!».
حقا! لو جمعنا ما في رسائل الناس من مشاعر وأشواق وأشجان، من نجوى ومن شكوى، من فرح ومن حزن، ألن نحص على كمية هائلة من التفاصيل تلخص دهشة تشيخوف.