المنشور

عبدعلي محمد أحمد… وداعاً


بالأمس القريب خطف الموت من الساحة الوطنية البحرينية رمزاً آخر من رموزها ورائداً من روادها الطليعيين الأوائل ممن أثروا الحركة بفكرهم السياسي النير ومواقفهم البطولية الرائعة.
 
حين غادرت البلاد وقبل وفاته لم أتصور بأنني سوف لن أراه أبداً. آخر مكالمة هاتفية تلقيتها منه قبل سفري بيومين وآخر رسالة نصية يدعوني فيها لحضور حفل زفاف ابنيه في مأتم البدع وأنا في الخارج.
تحدث معي وكعادته لم يشكُ حاله رغم تفاقم المرض، بل فتح دفتر الوطن بهمومه وشجونه… تحدثنا طويلاً وكلانا يقول ما العمل؟
 
عبدعلي أحمد، اسم يعرفه كل رفاق دربه ومحبيه ممن عاصروا وأياه مسيرة جبهة التحرير الوطني البحرانية منذ بداية الستينيات من القرن العشرين طوال مراحل النضال التحرري.
 
هذا الإنسان ينتمي إلى ذلك الجيل، التحق بحزب الكادحين في وقت كانت القوانين الأمنية الاستعمارية في غاية العنف والشراسة.
 
على رغم ذلك ظل عبدعلي صامداً على طريق الشوق، مؤمناً بحتمية الانتصار على قوى الظلم والطغيان وتخليص البلاد من براثن الاستعمار البريطاني، لم يأبه بجبروت ووحشية «بوب دلمان» ومن ثم «آيان هندرسون» وجميع مرتزقة وزبانية عصابة القتل والإرهاب آنذاك.
 
كان الراحل كادراً حزبياً فذاً يعلم بدقائق الأمور ويعرف ما يريد من خلال ثقافته التقدمية العالية وإيمانه الراسخ بثوابت الاشتراكية العلمية.
 
حين نتأمل حياة الفقيد نرى أنها سيرة حافلة لمناضل صلب تربى في أجواء الكادحين ونذر حياته من أجلهم.
لعبدعلي قراءاته ونظرته الخاصة حول متغيرات الساحة الدولية في الربع الأخير من القرن العشرين، لم تهزه الأحداث المؤسفة التي تلت انهيار الاتحاد السوفيتي ودول المنظومة الاشتراكية وانقلاب الموازين، ولم تأخذه الإشاعات والدعايات المغرضة والمضادة حول نهاية الفكر الاشتراكي، بعكس الآخرين من المتقلبين والانتهازيين ممن اهتزت نفوسهم وأطرافهم وتخلوا عن مواقفهم منجرين وراء آلة الإعلام الزائف ودفنوا ما كانوا يحملون من أفكار في أعماق آبار مظلمة، وتنكروا لرفاقهم وجماهيرهم، مختارين لأنفسهم الليبرالية غذاءً وملبساً!
 
تعرفت على أبي أنس في ربيع العام 1974م، في وقت كان الوطن يعيش عرساً ديمقراطياً لم يدم طويلاً . بعد قدومي إلى البلاد في زيارة خاصة. أخذني قريبي وأخي العزيز ع.ح. في جولة داخل سوق المنامة سيراً على الأقدام بعد سنوات من الغياب على خطوات من شارع الشيخ عبدالله استمهلني وأوقفني أمام دكان متواضع بداخله شاب أسمر متوسط القامة، استقبلني بكل حفاوة وترحاب، كان هو بعينه عبدعلي، طبعاً لم يكن بالإمكان إطالة الزيارة والحديث أكثر من دقائق معدودة لأن عيون وجواسيس القسم الخاص في كل مكان، وجدت في عينه الحزم والإيمان بعدالة قضيتنا وحركتنا التحررية.
 
عبدعلي ذاكرة حزبية غنية، بل قاموس يضم الذكريات والأحداث والمحطات التي مرت بها جبهة التحرير الوطني البحرانية خلال أعوام النضال السري، كان يعرف أدق الأمور التنظيمية ومراراً حين كنت التقي به كان يكرر امتعاضه ورفضه لبعض المغالطات والمعلومات الخاطئة التي كان يطرحها البعض أو يكتبها في الصحف بعيداً عن حقيقة الحزب وقيادته التاريخية.
 
كثيراً ما كنت ألح عليه بضرورة توثيق هذا الكم الهائل من المعلومات تمجيدا لتاريخ الجبهة ودورها في قيادة نضال الشعب البحريني.
 
لقد سررت جداً حين علمت مؤخراً أن الراحل قد أنجز جزءاً كبيراً من تلك المذكرات رغم حالته الصحية قبل رحيله وتركها كوديعة على أمل أن تنشر يوماً ما…
 
عزيزي أبو أنس، لقد أثار رحيلك المفاجئ هزة عميقة في كياني، انك لم تكن رفيق درب فحسب، بل كنت أكثر من ذلك كبحريني أصيل تحمل في قلبك المرهق هموم الناس البسطاء وتجاهر بالحق، رحلت عنا وعن هذا العالم، الذي كنت تحلم بأن يكون أكثر عدلاً، أفقدك كما يفقدك الكثير من أبناء جيلك من البحرينيين الأصليين ممن أحبوا هذا التربة ونذروا حياتهم من أجل هذا الوطن الغالي.
 
رحلت عنا بجسدك ولكنك ستظل دائما علماً من أعلام الحركة الوطنية ورمزاً خالداً من رموز جبهة التحرير الوطني البحرانية وستبقى بنبلك وإخلاصك في قلوبنا تضيء لنا الدرب لكي نتحدى تلاوين هذه الساحة الرديئة المليئة بالانتهازيين والمنافقين ممن يحاولون بأقلامهم المأجورة هدم ما تبقى من أمل وصدق ووفاء في زمن الذل والهوان. 
 



جريدة الوسط 15 يوليو 2010