حمى كأس العالم.. بهذه الكلمات الثلاث المعبرة أجمع العالم من شرقه إلى غربه ومن شماله إلى جنوبه على توصيف الحالة الهستيرية التي تتملك سكان الكوكب الأرضي مرة كل أربع سنوات ولمدة شهر كامل.
وهي بالفعل كذلك فلا يكاد يخلو مكان في هذا العالم، مهما كان قصياً ومنزوياً، من جمهرة متحلقة حول شاشة التلفاز تتابع بشغف وحماس تنافس أفضل اثنين وثلاثين منتخباً كروياً في العالم على الفوز بالكأس الذهبية بعد ماراثون من المباريات يمتد لواحد وثلاثين يوماً. يستوي في ذلك الكبار والصغار، رجالاً ونساء. فلا غرو أن تكون كرة القدم أكثر الألعاب الرياضية شعبيةً في العالم.
أول مونديال نظمته الأوروغواي في عام 1930 وفازت به في النهائي على الأرجنتين، والمونديال الحالي (مونديال 2010) هو أول مونديال يقام في القارة الأفريقية حيث استضافته جمهورية جنوب أفريقيا، وهو تكريم من الفيفا ومن العالم للمناضل الإنساني العالمي نلسون مانديلا ولبلاده التي تقف في طليعة الدول الرائدة اقتصادياً في ‘العالم الثالث’. وبالطبع كان الأمل يحدو الجميع في أن يكون هذا المونديال في مستوى هذا الاختيار وهذا التكريم.
إلا أن المحصلة جاءت مخيبة تماماً للآمال، حيث تذهب تحليلات المتابعين إلى تصنيفه كأضعف مونديال ينظم منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية. فلقد غاب عنه الإبهار الكروي وحماس اللاعبين، بل إن كبار النجوم العالميين الذين كانوا حتى أسابيع قليلة خلت يصولون ويجولون في ملاعب أنديتهم، بدو وكأنهم أشباح. والسبب يكمن في رأس المال الذي حوَّل اللاعبين النجوم إلى خيول سباق يباع ويشترى فيها بناء على ما تظهره الخيل أو الفرس (اللاعب) من قوة تحمل بدنية ومهارات فنية على مدى موسم كامل حافل بالمسابقات المرهقة والمدمرة، حتى أن اللاعبين يلتحقون بمنتخبات بلدانهم المشاركة في المونديال بعد أيام معدودات فقط من انتهاء الموسم الكروي لأنديتهم فيأتون وهم في حالة إعياء واجترار كروي ممل ومضن.
ومع ذلك رأينا كيف أن الجميع ابتداء من ملايين المشاهدين عبر العالم وليس انتهاء بحكومات ورؤساء الدول المشاركة في المونديال كانوا يتوقعون من هؤلاء النجوم أن يصنعوا المعجزات ويحققوا الأحلام فإذا بهم وجهاً لوجه مع الخيبات يجترعونها كمداً وحزناً.
ومع ذلك أيضاً، فإن ما حدث من تداعيات وردود أفعال على النتائج المخيبة وخروج منتخبات دول طالما نسبت نفسها للعالم الأول بالغ الحضارة، لم يكن أحد ليتصوره . فلقد بدت فرنسا بعد خروج منتخبها الوطني من الدور الأول، دولة تنتمي ‘للعالم الثالث’ حيث استنفرت الدولة أجهزتها فزعةً ونفضاً ‘للعار’ الذي لحق بها، ووصل الأمر لحد قيام رئيس الجمهورية نيكولا سركوزي باستدعاء لاعب المنتخب الفرنسي تيري هنري للاستماع منه حول ما دار داخل كواليس المنتخب وأسباب هذا الإخفاق الذريع. كما عقدت لجنة الشؤون الثقافية في البرلمان الفرنسي جلسة استماع خاصة استدعت إليها كل من رئيس الاتحاد الفرنسي لكرة القدم الذي كان قد سبق الإجراء بإعلان استقالته من منصبه وكذلك ريمون دومينيك مدرب المنتخب المنتهي عقد تدريبه. فلا يفرق أحد بين ردة الفعل الفرنسية المبالغ فيها وبين ردة فعل دولة عالم ثالثية مثل نيجيريا التي أصدر رئيسها غودلاك جوناثان أمراً رئاسياً قضى بحرمان منتخب بلاده لكرة القدم من المشاركة في أية مسابقة لمدة عامين عقاباً على خروجه من الدور الأول في المركز الرابع والأخير في مجموعته التي ضمت أيضاً الأرجنتين واليونان وكوريا الجنوبية. بل إن ردة الفعل الرسمية الفرنسية تعيد إلى الأذهان ما فعله رئيس إيطاليا ورئيس وزرائها في العهد الفاشي بينيتو موسوليني في مونديال عام 1938 الذي نُظم في فرنسا إذ هدد لاعبي منتخب بلاده بأن أمامهم خياران إما الفوز ورفع راية مجد إيطاليا (الفاشية) خفاقة أو الموت، فاندفع اللاعبون الطليان يخوضون المباريات ليس لرفع راية الوطن وإنما لتفادي مقصلة موسيليني التي كانت بانتظارهم في حال أخفقوا في تحقيق نزوته ‘المجيدة’. وتعيد إلى الأذهان أيضاً ما كان يفعله عدي نجل الرئيس العراقي الراحل صدام حسين بلاعبي المنتخب العراقي حين يكون الإخفاق نصيبهم.. وكذلك كوريا الشمالية التي أرسل رئيسها لاعبي منتخب بلاده بعد إخفاقهم في مونديال عام 1966 إلى معسكرات عمل السخرة. وهكذا، فإنه لا فرق بين الدول المتقدمة الأكثر رقياً وحضارةً وبين دول العالم الثالث المتخلفة في امتطاء صهوة ثقافة الفزعة حين يتعلق الأمر بالكبرياء الوطني المزعوم الذي لولا استغلاله البشع من قبل الحكومات لما كان له أي موقع من الإعراب في لعبة شعبية عالمية لا يُفترض أن تقاربها السياسة بأوحالها منعاً لإفسادها.
صحيفة الوطن
10 يوليو 2010