في حراك الإسلام الأول كان مشروعُ السوق الكبير، كانت مكة مدينةً رأسماليةً واعدة، لا روابطَ كبيرةً ثقيلةً بالإقطاع، روابطها الاقتصادية بالمدن المجاورة بين هذا وذاك، بين جدة الميناء المفتوح، والطائف البستان التقليدي.
اللغةُ البضائعيةُ ساريةٌ فيها كالروحِ المنعشةِ الطائرةِ بها نحو الأسواقِ في المنطقةِ – العالم الاقتصادي، صيفاً وشتاء، تحليقاً نحو الأرباح والبناء والتوحيد، والإسلام يحجمُ العبوديةَ من دون قضاء عليها ويوزع الإقطاعات الصغيرَة تكسيراً للمُلكيات الكبيرة وسيطرتها على العاملين، ويرفضُ المَلكية المُعبرةَ عن تمركز المُلكيات الكبيرة في إيدٍ قليلة.
فضاء السوق كبير: البضاعة، والنقدان الروماني والفارسي، وحتى البشر يغدون بضاعة مكروهة، وأدوات الإنتاج، والمتاجر، والمخازن، وأدوات النقل، ثم تتسعُ الأدواتُ البضائعيةُ مع اتساع الدولة – الامبراطورية لتغدو عالميةً عربية رغم مخاطر التوسع الفضفاض، فُيسكّ النقدُ العربي، وتظهر الحوالات، وتنتشر العملتان الذهبيةُ والفضيةُ، شرقاً وغرباً إسلاميين.
إن ضخامة السوق العربي الإسلامي العالمية تغدو أكبر سوق تداول، على أساسين اقتصاديين زراعي وحِرفي، ومسألة الربا تجدُ تحايلات اقتصادية، رغم عدم زوال العقدة الدينية وسيطرة القراءات الحَرفية، التي تعطي الرأسمالين المسيحي واليهودي حضورين قويين في السوق.
وتؤدي الحرفُ تطورات حضارية في البناء المعماري والوعي الفلسفي، والكتابات.
إن تفاقم الصراعات القومية والاجتماعية بين الأمم الإسلامية يضيقُ السوقَ العالمية هذه، وهي صراعاتٌ تتحول لمذهبياتٍ متحاورةٍ بدءًا في عواصم الازدهار الاقتصادي ثم تغدو مغلقة متعادية بعد ذلك في الشظايا السياسية المتسعة، وتؤدي للتفتيت المتنامي، أولاً: دولٌ مركزية، ثم دويلات، ثم فسيفساء من كيانات هشة تتساقط كل بضع سنوات.
النقدُ الثمين يهرب لمناطق يحدثُ فيها تطورٌ اقتصادي، مثل شرق آسيا، وجنوب أوروبا، ومع استمرار التفتت الإسلامي وزوال البدايات الرأسمالية، يختفي النقدُ الذهبي، ويُسك النحاس والحديد، وتُصادر الأموالُ والبضائعُ، وتتضاءلُ الأسواق، وتختفي الأسواق الكبرى المركزية.
وترحلُ طرقُ التجارة عن وسطِ ودواخل العالم الإسلامي، الذي غدا نهباً لحروب القوميات والطبقات والأقاليم تحت مسميات المذاهب والطوائف، تتوجه هذه الطرقُ نحو البحار البعيدة، ويحدث تداولٌ سلعي كبيرٌ بين غرب أوروبا وجنوب آسيا وشرقها الأمر الذي يُحدثُ مجاعات في مناطق عديدة في العالم العربية خاصة.
إن تضاؤل العمل المأجور والسلع والنقد يترك بصماته على العودة لاقتصاديات ما قبل الرأسمالية الواعدة تلك، كتوسع الرقيق، حيث يتم سحب دماء غزيرة من شرق أفريقيا، ومن شعوب آسيوية، ويدفعها ذلك لغزو العالم الإسلامي، ويتم تضمين الأرض والمحاصصة فيها بأشكالٍ كثيرة متخلفة، تقود لجمود العلاقات الانتاجية في الأرياف.
في العصر الحديث ساعدت المقاربة مع الغرب ونمو الليبرالية والوطنية من تخفيف أثر الطائفيات المندمجة مع العلاقات ما قبل الرأسمالية، فحدثتْ وحداتٌ وطنية وتطوراتٌ اقتصادية كبيرة انتهتْ بأنظمةِ رأسماليةِ الدولة التي عجزتْ عن التطور الديمقراطي الحديث، فبعثتْ الطوائفَ السياسية والاجتماعية مجدداً.
إن تداخل رأسماليات الدول العربية الإسلامية مع الطائفيات يعني حدوث التطور الاقتصادي بشكلٍ غير متدرج وغير ديمقراطي، وقيام البناء الاقتصادي على أسس سياسية ومناطقية وقبلية ومذهبية.
لقد وجدت الأسواق بوفرة، وعادت العملات على أساس ذهبي، وظهرت المصانع، وانتشر العمل بالأجرة، وغاب الرقيق، لكن النظامَ الرأسمالي الديمقراطي لم يظهر.
تعني الطائفية في الاقتصاد غياب الريف عن التطور الاقتصادي العصري، وتخلف النساء، وتضخم أجهزة الدول بأشكال قرابية وطائفية.
إن انتشار الرأسمالية الحرة الذي لو تم كان يعني انتشار العلاقات البضائعية بشكلٍ متصاعد، وتفكيك الطوائف وحدوث تداخل وطني عميق، وانتشار الثقافة العقلانية الديمقراطية، وتحرر النساء، وقيام الأحزاب على أسس طبقية، وتغلغل العلاقات الرأسمالية في الأرياف، لكن أجهزةَ الدول قامتْ بحرقِ المرحلة وقفزت على التطور(الطبيعي) بدعاوى سياسية قومية ووطنية وتحديثية.
ورأسماليات الدول الآن عاجزة عن العودة للمسار الطبيعي، بسببِ تثاقلها بالامتيازات والهيمنة على الموارد، والمراوحة والثبات يقودان لتفكك الدول إلى عناصرها الأولية الطائفية والدينية والقومية التي لم تنصهر في عملية النهضة.
وهذا يؤدي إلى خسائر اقتصادية ودمار للرساميل التي تجمعت، ويحطم بعض الأسواق التي نشأت بشكل قومي كبير، ويضعف التطورات الاقتصادية التوحيدية، ويجعل الرساميل خارجية بصورة كبيرة.
صحيفة اخبار الخليج
7 يوليو 2010