المنشور

الموظف الكبير والتاجر

لقد احتاجت تحولات الغرب التقليدي ليصير حداثياً إلى عشرات الحروب الدينية والقومية والعالمية، أي سفكت دماء مئات الملايين من الضحايا رغم وجود الفلسفات والعلماء.
وفي عالمنا العربي الإسلامي العالمي لا توجد عمليات وعي لما يدور لكي لا نكررَ تاريخيةَ الغرب، أي كيف نعي سببيات حداثته، ونقفزُ فوق حروبِهِ ونستفيد من منجزاته.
المسألةُ تبدأُ من خلايا صغيرة.
بين التاجرِ والموظفِ المسيطرِ فروقٌ كبيرة.
إن ظهورَ التاجر في العالم العربي الإسلامي كان صعباً، فبعد قرونٍ من هيمنةِ قطاعِ الطرق وفوضوية السلطات، كان التجارُ في الدولة العباسية هم ضحايا الأزماتِ الماليةِ للحكم، فكلما فشلَ الموظفُ الكبيرُ (وهو هنا أميرُ المؤمنين)، في تحصيلِ الخراج وفرغتْ الأموالُ من الخزائن لجأ إلى الضرائب ومصادرة أموال التجار.
كان ظهورُ التاجر صعباً، واستمراره كان أصعب، وثقافته وجلبه لثقافةٍ جديدةٍ أشد خطورة.
لكن الموظفَ الكبيرَ بين العصر العباسي والعصر الراهن لم يختلفْ نوعياً، فالموظفُ الكبيرُ يطلع وتكون الأرزاق بين يديه، يغدو عقلهُ معطلاً، فالأموالُ تحضرُ بين يديه، يغرق في الدواوينية والكسل، يتضخمُ جسمهُ من الطعام الذي هو ليس بحاجةٍ إليه، تكثرُ به الأمراضُ الجسدية، يعيش ليلاً وينامُ نهاراً، يتقوقعُ دمهُ في أسرته، يعيشُ على التسليات الكثيرة نظراً لضخامةِ الملل الذي يرتبط بعقله الصغير وجسمه الكبير، لا يعرف كيف ينمي الثروة العامة، يلجأ للطرق السهلة السريعة، يجعل الخراج (الأموال العامة) يصلُ إلى جيوبه أكثر مما يصل لعروق المصالح العامة ويمدها بأسباب الحياة.
التاجر يخرج في العصر الحديث العربي مُحاصراً من كل الجهات، التاجر الذي يرتبط بالسلطات ويطلب الحماية والرزق الوفير يخضع لمتطلبات السلطة، يحصرُ تجارتَهُ في متعِ الموظفِ الكبير، وقد ظهرتْ السياراتُ الفخمةُ في الخليج قبل السيارات العادية بعقود (فورد أولاً)، وقبل آلات الحرث، ولم تجئ تراكتورات الحرث، وصار مستوردوُ السياراتِ الفخمةِ ملاكاً متجمدين.
حين يُخضع الموظفُ الكبيرُ التاجرَ لمتطلبات الاستهلاك البذخي تخسرُ التجارةُ على المدى البعيد، فلا تتحول إلى صناعاتٍ تفجر الأرباح بل تغدو استنزافاً للميزانيات. فتنشأ الأزمات المالية الاقتصادية الكبرى فيما بعد من كثرة العارضين للسلع المتماثلة المستوردة.
وبعدها تجيءُ جحافلُ التجارِ الصغار التابعين للتاجر الكبير التابع للموظف الكبير.
والموظف الكبير لا يترك الاستهلاك البذخي الآكل لموارد الأمة. فالقصورُ والتحف الثمينة، والأعراس الباذخة، والفساتين والعطور تُحضرُ من باريس على طائراتٍ خاصة، والقرميدُ الغالي يُستورد ليزهو فوق السطوح، وحفلاتُ الأعراسِ تكلفُ الأمةَ أكثر من المصانع، ويُجلب الشعراءُ صانعو قصائد المديح، والمطربون والمطربات للغناء في ختان أولاده، وأعراسهم، ويتوجه الموظف الكبير ليقطف ثمار الثروة ولآلئ البساتين والجزر والشواطئ والخلجان، والذهب يستنزف والموارد تضيع.
التاجرُ يظهرُ في دكانٍ بسيط، يجمعُ الدرهمَ على الدرهم، يخففُ من الشموع، ويطفئُ القناديلَ خوفاً من ضياعِ الزيت، يدققُ في البضاعة، يرى الأرباحَ الصغيرةَ تفلتُ من يده، يجمعُ الأموالَ بصعوبةٍ شديدة عبر عشراتِ السنين، ينشئ عائلته على التوفير، يوجهُ أولادَهُ للأعمال المدرة للأرباح، وللزيجات العامرة بالكثير من المال والقليل من العيال، وبعد عقودٍ مرهقةٍ يسخرُ الناسُ من بخله ويمدحون الموظف الكبير الكريم!
بعد أن يؤسسَ التاجرُ الاقتصاد بأموالهِ وبالضرائب التي عليه، وتظهر الطرق والمؤسسات، يسرقُ الكثيرون دورَهُ السياسي، أي التتويج النضالي للحداثة الذي تهربَ هو نفسهُ من ختامها الكبير، نظراً لخوفه من مصادرةِ رأسمالهِ الذي شقي في تجميعه، في حين يتقدم أناسٌ بلا رأس مال، غير خائفين من مصادرة سنين من حياتهم، ولكنهم لا يملكون سبيل الحداثة الرأسمالية الوحيدة في شق طريق التطور.
وبعد سنوات طويلة يكتشفون ضياعَ سنوات أعمارهم وعدم تكوين رأس المال، إلا من تحايل بين الطرق الاجتماعية، وغدا حاوياً على الحبال الاجتماعية.
لا يجتمع الموظفُ الكبير والتاجرُ على مائدةٍ مشتركة لإدارة وضع الأمة الاقتصادي، هما منهجان مختلفان: فهنا منهج تضييع وبذخ وعدم تخطيط للاقتصاد، وهناك منهج تخطيط وحرص، لكن التجار الصغار ورجال الدين والموظفين الصغار والثوار يتوجهون للاستفادةِ من هذا النزاع التاريخي الطويل، يحتلون مقاعدَ السلطات، ينظرون لملءِ الفراغ، يخطفون عقوداً طويلة من تاريخ الأمة، يصنعون بعضَ الأشياء المفيدة، ثم يدخلون حروباً طاحنة، تنسفُ الكثيرَ من الإيجابيات التي صنعوها، ويصيرُ الموظفُ الكبير عقيداً يلتهم وأسرتهُ مزارعَ النفط وخراجَ الأرض.
حتى الآن لم تستطع الأمةُ أن توجد العلاقة الديمقراطية بين الموظف الكبير والتاجر بعد كل هذه التجارب الطويلة. ولايزالُ الموظفُ الكبير يتحكمُ بغيمةِ الزراعة أو بغيمةِ النفط التي تمطرُ في جيوبه.

صحيفة اخبار الخليج
6 يوليو 2010