المنشور

معوقات تنامي‮ ‬الدور الإقليمي‮ ‬لتركيا


هل هي مجرد صدفة أن يعود الكفاح المسلح الذي يخوضه أكراد تركيا ضد الدولة التركية للانفجار من جديد على هذا النحو المتصاعد في هذا الوقت بالذات؟ هل أن الأمر مرتبط كما تذهب بعض التحليلات إلى حلول موسم الصيف الذي عادة ما تنشط خلاله الخلايا المسلحة لحزب العمال الكردستاني (PPK)؛ أم إن للمسألة أبعاداً أخرى تتصل بديناميكية الدور التركي الذي برز بصورة لافتة للغاية على الصعيد الإقليمي الشرق أوسطي؟

لسنا هنا بصدد مناقشة مشروعية أو أحقية الشعب الكردي في جنوب تركيا في الكفاح من أجل الحصول على حقوقه المشروعة التي كفلتها له القوانين والمواثيق الدولية، فهذا الحق لا جدال فيه على الإطلاق؛ إنما يقع هذا في الإطار العام الذي نفترض أن لا يقيد حق مناقشة الملابسات السياسية التي قد تعتري نشاط أي حركة سياسية، ناهيك عن حركة تحرر وطني.

إنما تصعيد حزب العمال الكردستاني هجماته المسلحة ضد الجيش التركي في هذا الوقت بالذات، وعلى هذا النحو المفاجئ والكبير، ينطوي على شيء من الغرابة وقد يشي بما هو أكثر من ذلك.
أحد مكامن الغرابة هنا يتعلق بكون حكومة أردوجان هي من بادرت لتقديم تنازلات مهمة للأكراد، منها ما يتعلق بلغتهم الكردية، مع وعود بمزيد من ترتيبات جديدة للحكم الذاتي.

فقد يكون لهذا التصعيد علاقة مع نهوض تركيا السياسي الشرق أوسطي، وإقلاقها وإزعاجها بصورة متصاعدة للدولة العبرية، لم لا؟.. فما الذي يمنع حزب العمال الكردستاني من قبول ‘رشوة’ إسرائيلية، في صورة معونات عسكرية أو مالية مقابل هذا التصعيد؟.. لا شيء على الإطلاق، فقد سبق لعديد حركات التحرير الوطني أن فعلت ذلك، المرحوم الدكتور جورج قرنق الذي صنف نفسه يسارياً لم يتأخر عن قبول دعم ومساعدة الإسرائيليين له في حربه ضد نظام الحكم في السودان.

الرئيس السوفييتي الراحل جوزيف ستالين وقع اتفاقاً مع الزعيم النازي أدولف هتلر في نهاية عقد ثلاثينيات القرن الماضي، أي مع بداية تشكل غيوم الحرب العالمية الثانية، يقضي بعدم استهداف الجيش الألماني للأراضي الروسية حال غزوه للقارة الأوروبية.
وكما يقال في علم العلاقات الدولية، فإن السياسة تبيح المحظورات، فكم من حركة تحرر تعاونت وتلقت مساعدات مادية ولوجستية من أنظمة عُرفت باستبداديتها، ومع ذلك لم تتردد تلك الحركات في تلقي ذلكم الدعم من تلك الأنظمة التي كانت تنعتها بالوطنية والثورية.

وإسرائيل التي اعتادت على أن لا تفوت أي موقف تعده عدائياً لها، ليس بعيداً أن تكون وراء تحريك خيوط أعمال التصعيد الكردية التركية الأخيرة ضد الدولة التركية، رداً على التصعيد التركي الأخير ضد الحصار الإسرائيلي لقطاع غزة.
فما فعلته تركيا في قضية كسر طوق الحصار الذي تفرضه إسرائيل على قطاع غزة منذ 4 سنوات قد أضر كثيراً بإسرائيل وبسمعتها، خصوصاً لدى الرأي العام الغربي، الذي تحول ضدها على نحو ما حدث مع نظام جنوب أفريقيا العنصري، فلن تقوى بعدها الحكومات الغربية على الصمود طويلاً في وجه انتقادات شعوبها للدعم الأعمى والمنحاز لإسرائيل.
واعتباراً بهوية الدولة القلقة من غدها ونرجسيتها المفرطة وعنصريتها -المترتبة على كل ذلك- فإن إسرائيل تتوجس كثيراً من تنامي الدور الإقليمي لتركيا، وهي تريد خصوصاً وقف اندفاع تركيا نحو تبني القضية الفلسطينية، وإعادة الجولان السوري إلى سوريا، بما يمهد لنهوضها كقوة إقليمية ذات نفوذ سياسي واقتصادي وعسكري.

المشكلة التي واجهتها الاستراتيجية التركية الإقليمية الجديدة، أنها قررت ‘ركوب هذه المغامرة’ وظهرها مكشوف على عدد حساس جداً من الجبهات، التي يسيل لها لعاب الموساد واللوبيات الصهيونية عبر العالم، حال تلقيهم ‘الإشارة’ من مراكز قراراتهم بالتحرك لالتقاطها.

وعندما نقول ظهرها مكشوف فإننا نعني بذلك نقاط الضعف التالية التي تعتريها:

(1) الورقة الأرمنية، ونحن نعلم قوة اللوبي الأرمني في عدد من عواصم صنع القرار الدولي خصوصاً في واشنطن وباريس، وعلاقات هذا اللوبي الوثيقة مع اللوبي الصهيوني.

(2) الورقة القبرصية، حيث لازال انقسام قبرص بين القبارصة الأتراك والقبارصة اليونانيين، يشكل مصدر خلاف بين تركيا وبقية الدول الأوروبية، ويمكن إثارته كيدياً في أية لحظة من لحظات توتر العلاقات بين تركيا وخصومها.

(3) القوى العلمانية والليبرالية التي ما برحت تواصل ضغطها على حزب العدالة والتنمية الحاكم، حيث مازالت تتوجس من خياراته وتوجهاته.

(4) هذا بالإضافة طبعاً للورقة الكردية التي أتينا على ذكرها سلفاً.

وأمام هذه المعطيات الضاغطة على حرية حركة الحكومة التركية في الفضاء الشرق أوسطي، هل تستطيع تركيا الصمود والثبات في وجه القوى التي ستعمد لاستغلالها لتثبيط عزائمها؟ أم إنها ستذعن لها وتسحب نفسها بهدوء لدرء الأضرار التي قد تلحق بها جراء هذا الانعطاف الحاد في سياستها الإقليمية.

هي بالتأكيد ليست مغامِرة ولا شعبوية، ولكنها بالمقابل أثبت أنها لا تتنازل عما تعتقد أنه يصب في مصلحتها ويخدم استراتيجيتها، قد تنكفئ قليلاً بدهاء الساسة الميدانيين، إنما من غير المستبعد أن تتراجع عن المكاسب التي حققتها لها هذه الانعطافة في سياستها الإقليمية.

 
 
الوطن 3 يوليو 2010