المنشور

السياسي في غير السياسي


إلى أي مدى بوسعنا أن ننجو من السياسة، بما فيها السياسة في أشد أشكالها مباشرةً ويومية، إذا قررنا ألا نكون سياسيين؟ أعني إذا قصدنا عن أن نبتعد عن السياسة، من حيث هي وقائع تجري أمام ناظرينا كل ساعة، وتؤثر في حياتنا وشكل وعينا، وتفسد رغبة أكثر الناس بعداً عن السياسة في أن يحرروا أنفسهم منها ومن تداعياتها.

الجواب موجود ضمناً في سياق السؤال أعلاه، إننا لا نصبح أحراراً من السياسة لمجرد أننا رغبنا في ذلك، لأنها تدخل في أدق تفاصيل الحياة، بما فيها تلك الأشياء التي قد لا تُرى بالعين المجردة.

علينا أن نفتش عن السياسي في أكثر ألأشياء بُعداً عن السياسة، سنجدها تطل برأسها، وربما تمد لسانها ساخرة من سذاجتنا حين نظن أننا كففنا عن أن نكون في دائرة المهتمين بها.

وللتوضيح أكثر بوسعنا أن نلاحظ أن وسائل الاتصال الحديثة، وفي مقدمتها التلفاز، حين تغرقنا في مواد الترفيه والتسلية والمتعة، ظناً من القائمين عليها أن هذا الأسلوب من الإغراق يمكن أن يزيف الوعي ويعمي البصائر عما يجري في الواقع، سنجد أن هذا الهدف هو في حد ذاته سياسة واعية وموجهة، وتحقق أهدافاً سياسية حتى لو كانت الفئة المستهدفة بها غير واعية لما أصبحت هي أسيرة له.

في مذكراته فترة الحرب العالمية الأولى كتب هيرمان هيسه فصولا عن الحب والحرب والسلام، وحين قدم لها وهو يجمعها في كتاب قال أن الناظر لجدول محتويات الكتاب سيلاحظ أنه لم يكتب مقالات سياسية أو حسب تعبيره هو «مقالات آنية»، قبل أن يستدرك قائلاً انه لم يكن خلال تلك السنوات العاصفة في سبات، مُديرا ظهره للقضايا الراهنة في وقتها، كأنه يحثنا هنا على أن نلاحظ السياسي في كتاباته التي قدمها على أنها غير سياسية.

ورغم زعم الكاتب أن كتاباته، مع ذلك، مناقضة للسياسة، لأنه جاهد كي يقود القارئ ليس إلى عالم اشد شحنا بمشاكله السياسية، وإنما إلى كيانه الأعمق أمام كرسي محاسبة ضميره، إلا انه لم يفلح في حجب حقيقة انه حتى في هذه الرغبة في التجرد من السياسي كان يقوم بفعل سياسي ، أو فلنقل كان يفكر بشكلٍ سياسي، حتى ولو وجد نفسه يسير مُكرهاً على دربٍ لم تكن ممهدة ولا مريحة.