يتوقف نجاح أي حركة سياسية أو وطنية ضد الاحتلال الأجنبي لبلادها أو ضد النظام السياسي فيها إذا ما كان شموليا أو دكتاتوريا عاتيا في استبداديته.. يتوقف هذا النجاح على مدى قدرة الحركة على تحليل ودراسة الاوضاع والظروف الملموسة للبيئة السياسية التي تمر بها بلادها سواء على المدى القريب ام على المدى البعيد، ويدخل ضمن هذه الاوضاع أيضا القراءة الموضوعية عما إذا كانت الاوضاع الطبوغرافية والجيوسياسية تسمح بتبني شكل محدد من اشكال النضال ضد المحتل أو ضد النظام التوليتاري القائم. كما يدخل في عداد هذه القراءة ادراك الطابع القومي للشعب وسماته الاجتماعية والثقافية ومزاجه السياسي المتغير في هذه الفترة أو تلك الفترة، في هذه المرحلة أو تلك المرحلة.
وهناك عوامل اخرى بطبيعة الحال لابد من توافرها وتكاملها مع هذا العامل في مقدمتها وحدة صفوف فصائل وقوى الحركة السياسية، ناهيك عن وحدة صفوف الشعب من خلفها، فضلا عن الادوار أو التأثيرات الاقليمية والدولية الخاضعة بالطبع الى التغيرات من وقت الى آخر.
وما محنة وتعقد نضال الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال الاسرائيلي لوطنه على مدى ستة عقود ونيف الا لافتقاده قيادة ثورية محنكة تتحلى بأكبر قدر من الواقعية من دون تطرف أو تفريط في ثوابت قضيتها الوطنية، هذا بالطبع على مستوى العوامل الذاتية من اسباب اخفاقات الحركة الفلسطينية ولا يعني ذلك ما للعوامل الموضوعية من دور في تعقد مهام الحركة وانتكاساتها المتواصلة بتضافرها مع العوامل الذاتية.
ان تبني شكل النضال السليم بما في ذلك الاسلحة أو الوسائل النضالية الفاعلة سواء أكانت هذه الوسائل سلمية أم عنيفة قد يأتي بنتائج حاسمة تجبر العدو على الاستسلام، والعكس صحيح فقد تأتي بنتائج كارثية انتحارية على الحركة التي تبنت اسلحة أو وسائل نضالية ليست وليدة دراسة موضوعية عقلانية لمدى مواءمتها للحركة السياسية والشعب الذي يقف خلفها.
الحركة السياسية الفلسطينية الوطنية – لأسباب متعددة ليس هنا مجال الخوض فيها – هي ليست اكثر الحركات الوطنية العربية التي وقعت في اخطاء وسوء تقدير اختيار الوسائل والاسلحة المناسبة للنضال ضد الاحتلال الاسرائيلي فحسب، بل الانكى من ذلك في استمرار اجترارها وتكرارها تلك الاخطاء على نحو دام تراجيدي مؤسف، وفي اكثر الاحيان جرى التقليل من دور وتأثير الوسائل السلمية في دفع القضية الفلسطينية الى الامام من خلال خلق والبناء على تراكم ومنجزات ثورية متحققة بتلك الوسائل التي يخضع ابتكار اشكالها وانواعها لعبقرية وسعة أفق قيادة الحركة السياسية.
من الاشكال النضالية السلمية التي اثبتت جدواها وكان يفترض ان تكون الحركة الفلسطينية هي المبادرة اليها من خلال قنواتها المدنية الخلفية و”لوبياتها” على الساحتين الدولية والعربية تسيير سفن الاغاثة والتضامن مع الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، لكن من المؤسف ان المبادرة جاءت من هيئات وجهات ورموز صديقة غير عربية في اوروبا والغرب واخيرا من تركيا الاسلامية، ولقد اينعت رحلة اسطول الحرية ثمارها السياسية بدماء شهداء السفينة التركية مرمرة التسعة، ومازالت هذه الثمار تؤتي اكلها تباعا.
– فمن ذا الذي يستطيع ان يذكر أنه لولا اسطول الحرية كان معبر رفح سيفتح في التوقيت الذي فتح فيه؟ وهل كان المعنيون بالمعبر بحاجة الى الانتظار لوقوع مأساة “مرمرة” ليفتحوا بعدها المعبر؟ وماذا كان سيجري لو فتح مسبقا من دون انتظار وقوع مأساة السفينة على أيدي البرابرة الاسرائيليين الكوماندوز؟
– ومن ذا الذي يستطيع ان يكابر بأنه لولا اسطول الحرية كان أمين عام جامعة الدول العربية عمرو موسى سيزور غزة للوقوف على مأساة حصار مليون ونصف مليون انسان في القطاع؟ وهل كان موسى بحاجة الى كل هذا الانتظار الطويل على مدى أكثر من ثلاث سنوات حتى تقع مأساة الاسطول ليقرر عندها الدخول الى القطاع؟ وماذا كان سيضيره لو حاول الدخول في المرات القليلة السابقة التي فتح خلالها المعبر؟
– وهل كانت ايران وبعض انصار القضية الفلسطينية في البلدان العربية بحاجة الى الانتظار لوقوع حادث اسطول الحرية ليقرروا بدورهم تسيير سفن جديدة؟
– واخيرا، لماذا قررت اسرائيل ان تقوم بمسرحيتها الاخيرة بتخفيف الحصار والسماح بادخال بعض المواد الى غزة؟ أليس ذلك ليس دليلا فقط على تهافت ذرائع استمرارها في الحصار بل على ما حققته رحلة اسطول الحرية؟
هذه التجربة تعني أن تسيير رحلات كسر الحصار البحرية ما هي الا شكل من أشكال عديدة نضالية سلمية يمكن ابتداع الكثير منها وتؤتي ثمارها في حين ما تعجز اغلب الاحيان صواريخ حماس وعملياتها “الاستشهادية” وهي اساليب نضالية اضطرت الحركة الى التخلي عنها عمليا ولو من دون اعلان أو اعتراف بعدم جدواها، كما تخلت “فتح” أو اجبرت على التخلي عن الكفاح المسلح من خارج فلسطين في البلدان العربية المجاورة عام 1982، أي خلال اقل من 15 عاما من تبني هذا الاسلوب بعد نكسة 1967.
صحيفة اخبار الخليج
29 يونيو 2010