ذهب إلى الموت منذ نحو أسبوع، وبشكل هادئ، تماماً كهدوء السنوات الأخيرة من عمره التي قضاها في جزيرة لانزاروتي في الكناري، واحد من عمالقة الأدب الإنساني الذين كان الأدب بالنسبة لهم موقفاً بمقدار ما هو فن، الكاتب البرتغالي جوزيه ساراماغو حائز على جائزة نوبل للآداب عن عمرٍ ناهز السبعة وثمانين عاماً، بينها نحو أربعين عاماً قضاها مناضلاً في صفوف الحركة اليسارية والديمقراطية في بلاده.
نفى ساراماغو نفسه عن بلده البرتغال احتجاجاً على الضجة التي أثيرت ضد إحدى رواياته حين قادت أوساط قريبة من الكنيسة حملة ضد صدور الرواية، رغم أن البرتغال، كما العالم، تقر بتاريخه الإبداعي وكذلك النضالي الحافل، حيث كان في قلب الحركة المناهضة لفاشية سازالار ومناضلاً عنيداً من أجل الديمقراطية، ولم يكن في ذلك يشذ عن القامات الأدبية الكبرى في القرن العشرين، التي وجدت في الانحياز للقيم الديمقراطية شرطاً من شروط الإبداع.
حين تذكر ثورة القرنفل في العام 1974 يذكر اسم ساراماغو كأحد المشاركين فيها. كانت تلك الثورة قد أنهت الحكم الفاشي في البرتغال، وتزامنت مع التحول الديمقراطي في اسبانيا الذي أزاح عن صدور الأسبان ديكتاتورية فرانكو، لتتم الإطاحة بآخر المعاقل الاستبدادية في جنوب القارة الأوروبية.
كان بالوسع ألا يصبح كاتباً مرموقاً على الإطلاق، فراويته الأولى «ارض الخطيئة» التي صدرت في العام 1947 لم تسترع الانتباه. فلزم ساراماغو الصمت تسعة عشر عاماً، وعن ذلك قال: «لم يكن لديَّ ما أقوله».
لم يعرف الشهرة إلا في العام 1982 وهو في سن الستين مع رواية «الإله الأكتع»، وهي قصة حب تدور أحداثها في القرن الثامن عشر، ولكن الاعتراف به كإحدى القامات الأدبية الكبرى في أوروبا سيتوالى، ويتوج بنيله جائزة نوبل للآداب عام 199، عن روايته «الطوف الحجري»، حيث ذاعت شهرته من خلال ترجمة رواياته إلى مختلف اللغات، بما فيها اللغة العربية.
يؤكد ساراماغو انه يكتب ليفهم عالماً يصفه بأنه «مقر الجحيم»، في روايات تحرض على التمرد، رغم أن مناخاته وعوالمه تقترب من الخيال، ولم يبارحه الاعتقاد بكون هذا العالم مقراً للجحيم حتى موته، هو القائل، عن هذا العالم، في مدونة اليكترونية ظل يحررها منذ عام 2008: «يولد فيه ملايين الأشخاص من اجل أن يعانوا من دون أن يهتم احد لأمرهم». وكانت الأزمة الاقتصادية والمالية التي تعصف بالعالم لما تزل في بداياتها حين اعتبرها ساراماغو «جريمة ضد الإنسانية ويجب أن يُحاكم عليها المتسببون فيها».
يحظى ساراماغو بشعبية كبيرة في بلدان أمريكا اللاتينية، حيث التقت الروح المتمردة لرواياته مع المزاج الثوري في القارة، التي خبرت حكم الديكتاتوريات العسكرية، تماماً كما هو حال بلاده البرتغال، سيما وأن عدداً كبيراً من سكان القارة ناطقون بالبرتغالية، حيث استقبل نبأ رحيله بالحزن في الأوساط الثقافية والحركات الديمقراطية هناك.
وانسجاماً مع مواقفه الأممية زار ساراماغو مدينة رام الله في آذار/مارس 2002، فهالته جرائم وخطايا الاحتلال الصهيوني، حينها قارن الوضع في الضفة الغربية بالوضع في معسكرات الموت التي أقامها النازيون، وقال: «انه الأمر ذاته باستثناء الحقبة والمكان».
صحيفة الايام
28 يونيو 2010