إضافة إلى كونه مثقفاً ومفكراً وناشطاً سياسياً، بمعنى من المعاني، هناك وجه مهم للراحل إدوارد سعيد يتصل بكونه أكاديمياً، وأستاذاً جامعياً، وهو جانب لم يحظ باهتمام كبير في وسائل الإعلام العربية التي كتبت عن إدوارد سعيد في حياته وبعد مماته.
وقد وجه له أحد النقاد سؤالاً ذات مرة عن فكرة جمعه بين مفهوم المثقف العضوي الذي صاغه غرامشي، والذي كان، أي غرامشي، يحظى بتقدير إدوارد سعيد وإعجابه وبين عمله كأستاذ جامعي، الأمر الذي رأى السائل أنه يندرج ضمن تلك الوظائف التي يقوم بها المثقف التقليدي، الذي ينتهي إلى تقديم المبررات للسلطة، أياً كانت هذه السلطة، فكان رد إدوارد سعيد أن ما يشده إلى غرامشي ليس التقسيم بين المثقف العضوي والمثقف التقليدي، وإنما كونه مهتماً بكل شيء، ومع أنه كان مقيداً بشدة بحكم وضعه الصحي، وبحكم كونه سجيناً لفترة طويلة، فإنه مر بتجارب مدهشة كثيرة تجلت في رسائله وفي الوقت الهائل الذي أمضاه في القراءة والكتابة في السجن، وهو أمر يمثل مغامرات إنسانية كبرى في التجارب الإنسانية.
وبرأي إدوارد سعيد، في رده على محاوره، إنه بوسع الجامعة أن تتجنب كونها مؤسسة لما يسميه غرامشي المفكرين التقليدين، وهو يرى أن الجامعة في أمريكا، رغم بعض النواحي القسرية فيها بالطبع، مازالت تؤدي دوراً معتدلاً، فمع أن هذه الجامعة تعمل من خلال علماء الاجتماع وسواهم لتوطيد شرعية السلطة الاجتماعية، لكن أفراداً مثله ومثل نعوم تشومسكي موجودون في الجامعات، رغم أنهم يتعرضون لكثير من الضغط، لكنه، وكذلك تشومسكي، ما كان سيجدان نفس جمهور المستمعين لو لا الجامعة.
فكثير من الناس الذين يستمعون إليهما، خاصة في حالة تشومسكي، هم طلاب جامعيون، فالجامعة، بهذا المعنى، تؤمن المنبر المطلوب للتفاعل بين المفكر وبين القاعدة الاجتماعية أو كتلة الرأي العام التي يخاطبها، ورغم أن حالته وحالة تشومسكي تعد استثناء وليست قاعدة، فإنه يرى بأنه لابد للخارجين على القاعدة أن يظهروا من مكانٍ ما، فهم ليسوا من علم الغيب. لكن الأمر ينطوي على تعقيدات كثيرة، ذلك أن أقصى ما يمكن تحقيقه في الجامعة هو «إنتاج» أفراد يبدون صادقين مع أنفسهم.
وفي حالة قيام أستاذ بتدريس مادة كمادة الأدب الإنجليزي، كما هو حال إدوارد سعيد نفسه، فإنه يشعر بالتقييد الشديد، فالمشكلة ناشئة من أن الأستاذ عليه مسؤولية تجاه المادة التي يدرسها لطلابه، وهي مسؤولية حقيقية، لكن الهدف الرئيسي هو أن يخلق لدى طلابه وعياً نقدياً آخر. من هنا يبدو الأمر صعبا أن يكون مثقف بحجم إدوارد سعيد معلماً، لأن عليه دائماً أن يجتزئ من نفسه، فهو يعلم الأشياء التي يستطيع الطلاب أن يتعلموا منها، ولكنه في الوقت نفسه مدعو لأن ينبههم إلى الجوانب السلبية في المادة، كأنه يقول لهم في الآن ذاته: افعلوا هذا ولا تفعلوه. مهمة صعبة كهذه بإمكان أستاذ مرموق مثل إدوارد سعيد أن يضطلع بها بذكاء وموهبة.
وهو إذ يفعل ذلك يقدم درساً بإمكان أساتذة الجامعة في كل مكان أن يستفيدوا منه.
صحيفة الايام
26 يونيو 2010