إن قرونَ التشكيلةِ الرأسمالية التي بدأتْ من القرن السابع عشر والثامن عشر الأوربيين عديدة، وإذ تعتمدُ على الإنتاجِ والسوق، فهي غربياً عالمياً مزدهرةٌ مهيمنةٌ في القرنين التاليين حتى رغم تفكك الأسواق الوطنية الأوروبية لكن السوقَ تغدو عالميةً بفضلِ المستعمرات، وهذه كلها جعلتْ الأسلوبَ الرأسمالي كونياً، ووجدتْ الأممُ الشرقيةُ نفسَها تترسملُ بتوسعٍ، بحسبَ قوةِ كلِ أمة، والقوةُ هنا تعني قدرة أفكارها على تحويلِ موادِها الخام وقواها البشرية الإنتاجية إلى صناعةٍ، وتأتي في القمةِ من ذلك الأفكارُ السياسيةُ والأفكارُ الدينية.
الأممُ الموحدةُ التي هي أسواقٌ كبرى، وتصعدُ بسرعةٍ أكبر من الأممِ الممزقةِ سياسياً ودينياً، وسنجدُ الدياناتِ تمثيلاً مُبكراً للأسواق. فالدياناتُ الكبرى هي تشكيلُ سوقٍ عالمية، في ظلِ العبوديةِ والإقطاع، أي في ظلِ مستويات اجتماعية محدودة تمنعُ من تعميمِ السلع سواءً في المادة أو في قوة العضلات البشرية.
إن الديانةَ الصينيةَ الكبرى وهي: الكونفوشيوسية تشكلُ دولةً هائلةً خلال عشرين قرناً، أرست المقدمةَ الاجتماعيةَ للرأسماليةِ الحديثة الصينية، فلم تحتج (الشيوعية) أي الرأسمالية الحكومية الصينية بمرحلتيها الماوية والبرجوازية الشمولية الراهنة سوى أن تشكلَ عَلمانيةً هادئة ثم تُطلقُ طاقاتِ الأمةِ الموحدة.
كذلك فإن هذه الأمةَ المنعزلةَ المستقلة تجمعُ وتحفظُ قواهَا المنتجةَ البشريةَ ولا تبعثرُها بالحروبِ والغزوات، فتقمعُ الحراكَ البدوي الاستلابي للشعوب، فيها وخارجها، وتحضرُ سكانَها، وتمنعُ الغزوات الخارجية، فالحروبُ البدويةُ ما هي إلا سرقة البضائع من الغير.
إن سور الصين العظيم وتقليل الزوجات ونشر الزراعة والمبادئ الكونفوشيوسية هي التحضيراتُ الطويلةُ الكبرى للرأسمالية الهائلة الراهنة. إنها تكريسُ إنتاجِ البضائعِ الذي كان شغلُ أمةٍ مسالمة صبور عاملة.
مثلها مثل الهندوسية وهي غابةٌ من الأفكارِ والعباداتِ ومع ذلك شكلتْ أمةً موحدة وغاندي العميق الفكر دمجَ بين الهندوسيةِ والرأسماليةِ الديمقراطية فتفجرتْ الهندُ سوقاً وصناعات وتقدماً من دون خسائر بشرية مريرةً.
أكثر من مليار عدد كل من الصينيين والهندوس والمسلمين والمسيحيين الغربيين وكلٌ منها قاعدة لتشكلِ أسواقٍ كبرى. لكن الوحدةَ القومية أو السوق المشتركة، هي الفيصلُ في ذلك. فإذا كان أصحابُ الديانةِ مفتتين ولا يشكلون سوقاً موحدة فإن المليارَ مثل المليون.
إن السوقَ القوميةَ الكبرى تعني ان سلبيات التخلف الاجتماعي من ضعفِ التقنيات لدى العمال أو استمرار العمل النسائي البيتي المتخلف أو ضعف التعليم، لا تمنعُ النهضةَ الصناعيةَ الواسعة، لكونها سوف تتغلبُ عليها بشكلٍ تدريجي وفي ظلِ نمو اقتصادي متصاعد.
إذا نظرنا إلى كونفوشيوس فسنجدُ منهجيتَهُ ترتكزُ على تعميم النظام السلمي الصارم المنتج وفي ظلِ قياداتٍ حكومية قوية، وفي ذلك الزمنِ من التداخلِ بين تشكيلتين متخلفتين راكدتين هما العبودية والإقطاع، لم يكن ثمة أفق سوى هيمنة هؤلاء السادة الأمراء والملوك مع إبراز الفضائل الممكنة التي تجعلُ النظامَ يستمرُ بقوةٍ وبازدهار، ولم يكن بإمكانِ الفيلسوف الصيني أن يربطَ هذه الفضائل – الرذائل بأسلوبِ الإنتاج، الذي كان يقودهُ السادةُ إلى الهدرِ وبالتالي كان يقوضُ الاستقرارَ على المدى الطويل وهو قد تصور أن الفضائل الأخلاقية المجردة تصنع المعجزات، لكن من دون إزالة البنية الاجتماعية المتخلفة فإن الفضائلَ المجردة لا تصنع شيئاً كبيراً ومستمراً. لكنه حاول أن يوجه هذه الطبقة المسيطرة إلى التفتح وبُعد النظر والإيثار وإلى توسعِ أفقِ معرفتِها بالاهتمام بالعلوم والموسيقى والأدب. وهي توجيهاتٌ هُزمتْ في زمنه، فكان شخصيةً مُهمشة، لكن ما طرحهُ صمدَ في زمنية غباء هذه الطبقات المرفهة الفاسدة ثم وُجدت في هاتين الأخلاقية والثقافة صمامَ أمانٍ لنظامِها الاجتماعي، وتمثل تراكماً اجتماعياً ثقافياً يوجه موارد اقتصادية إلى البناء.
في خضم التاريخ الصيني تحققتْ اختراعاتٌ مهمة للبشرية عامة مثل صناعة الورق وصناعة البارود، وصناعة الحرير وصناعات حرفية أخرى عديدة.
لقد أرسى كونفوشيوس دعائم للحضارة الصينية، التي تهيمنُ عليها طبقةٌ عليا، ذاتُ بصيرةٍ وطنيةٍ غريزية، تتجسدُ أخلاقياً وثقافياً عبر مجموعةٍ من الفضائل التي تعني السلام ونبذ الفتوحات والاهتمام بالعمل البسيط المنتج، وهي قُدمت كخميرة للمتنورين والنهضويين الصينيين في بداية الحداثة.
في كتاب صموئيل هنتنغتون (صدام الحضارات وإعادة بناء النظام العالمي)، يقول إن النمو الصناعي الصيني لم يتوقفْ خلال القرون الأخيرة منذ القرن السابع عشر، وأظنهُ يعني الحِرف وليس الصناعات الحديثة.
إن هؤلاء المتنورين الذين قُدمت لهم الصين موحدة ذات جذور نبذوا الكونفوشيوسية بداية القرن العشرين وأعلنوا الجمهورية والعَلمانية والأفكار التقدمية، بسبب أن هذه الفلسفة التي حُولت إلى ديانة محافظة متصلبة تبرر بناء تقليدياً، فلم تعد مجدية، ورأوا انه لابد من مقوماتٍ فكرية واجتماعية أخرى وجديدة، لكن بحثهم ظل يجري تحت المظلة، تحت مظلة الكونفوشيوسية مظلة الصراع والنضال الأخلاقيين، وكان تنويرُهم تنويراً فكريا محضا لم يتغلغل في أساسيات الإنتاج، وأدتْ مؤسساتهم السياسية إلى استمرار النظام القديم من دون تغيير جذري في وقت هجمتْ فيه الرأسماليةُ العالمية على كل أنحاء الأرض.
صحيفة اخبار الخليج
24 يونيو 2010