تذكرنا قصص الراحل يوسف ادريس بعالم تشيخوف ومناخاته النفسية. انه تشيخوف مصري أو عربي في مهاراته السردية المذهلة، وفي توغله العميق في العوالم الروحية للإنسان وتمزقاته وسط التجاذبات الكثيرة. يوسف ادريس يشبه تشيخوف في أمر آخر مهم، هو ان الاثنين كانا طبيبين. لا أعرف بالضبط ما الذي أعانهما الطب عليه في كتاباتهما، ولكن أحب أن انظر الى الأمر اكثر من كونه مصادفة صرفة. وهذا موضوع حديث آخر.
بصفته طبيبا، وليس قاصاً، تناقش يوسف ادريس ذات مرة في لندن مع اخصائي كبير في اختبارات الذكاء بمستشفى «هامر سميث»، حيث كان طفلا عربيا يفحص من إصابة، وحين أجريت عليه اختبارات الذكاء كانت نسبة درجاته أعلى بكثير من المعتاد في هذه السن، حسب الكاتب المصري ان هذا الطفل نابغة او فلتة، لكنه فوجئ بالأخصائي يقول له: «ان هذا ليس أول طفل من بلادكم أجري له الاختبار، وهو ليس أول الحاصلين على هذه النسبة».
فرح يوسف ادريس بهذه المعلومة، لكن فرحه سرعان ما تبدد حين هز الأخصائي رأسه متابعاً: «لكن الغريب، ان أطفالكم يظلون كذلك الى حوالي الخامسة ثم تبدأ نسبة ذكائهم في الهبوط، بينما تأخذ نسبة قرنائهم الانجليز أو غيرهم في الارتفاع بحيث يتفوقون عليهم بمراحل».
الفكرة تكمن في ان هذا الذكاء الفطري، او الموروث لدى اطفالنا فيما لو جاز لنا تعميم قول الاخصائي البريطاني، يفترض ان يقابله نظام حياة ينمي هذا الذكاء الفردي ويربيه على تكوين مجتمع ذكي يعمل طول الوقت ويطور نفسه بحيث يستطيع باستمرار ان يستوعب ذكاء أفراده، وبذكائهم الجماعي يحيا ويتقدم وينتج، ولكن عكس هذا هو الذي يحدث، بحيث يجد الفرد الذكي نفسه في حالة صدام مع مجتمع قاصر عن استيعاب ذكائه.
الطريف ان يوسف ادريس يقدم معطيات فحواها ان الذكاء الآسيوي، ويقصد به ذكاء شعوب الشرق الأقصى، هو ذكاء متوسط، ولكن الأفراد هناك ينشؤون في مجتمع ذكي، أو مجتمع يعرف قيمة الذكاء فيهيئ لهم كل السبل ويتيح لأذكياء كثيرين ان يعملوا معاً، ما ينشأ عنه التعاون الذكائي الكامل، الذي يصنع أي حضارة أو صناعة أو حتى فن، وبالتالي يصنع الإنسان ويدربه ليكون أذكى.
بوسعي ان اسوق في هذا السياق ما اكتشفته لجنة علمية شكلها الرئيس الأمريكي الأسبق جون كيندي بعدما تفاجأت الولايات المتحدة بإرسال الاتحاد السوفييتي اول رائد فضاء، فقررت اعادة النظر في برامجها التعليمية وشكلت تلك اللجنة لغرض دراسة مواقع القوة في النظام التعليمي السوفييتي، فوجدت ان السوفييت يختارون الأطفال النابغين من مختلف انحاء البلاد الشاسعة، ويلحقونهم بصفوف دراسية خاصة، يدرسون فيها مقررات أعلى من تلك التي يدرسها بقية التلاميذ وبوتيرة اسرع. خريجو هذه الصفوف يصبحون في ما بعد علماء نابغين مكتشفين، لأن ذكاءهم وجد من يحتضنه وينميه.