تستحوذ على كل منا فكرة أو مثال أو هدف، فنركز كل أنظارنا وحواسنا عليه ولا نرى شيئاً آخر سواه. كل الأمور تعدو تفاصيل صغيرة أو ثانوية فلا نوليها اهتماماً ولا نظن أنها جديرة بأن نتوقف عندها، بل إننا نغمض عنها الأعين بصورة لا إرادية فلا نكاد نبصرها.
في غمرة بحثنا عن الشيء الذي نريد أو استغراقنا فيه يحدث بسهولة ألا نرى إلا هذا الشيء، ولا نرى أشياء كثيرة سواه لا تقل عنه أهمية وجدوى، وحتى إذا صادفتنا هذه الأشياء ونحن في طريق البحث عما نرغب فيه لا تثير لدينا فضولاً أو متعة ولا نراها في قيمتها الحقيقية.
ما نقوله عن الأشياء يمكن أن نقوله عن الأشخاص أيضاً. كم من البشر عبروا أمامنا خفافاً خطافاً دون أن نلحظهم، بل لعلهم أقاموا بعض الوقت في دنيانا الصغيرة دون أن نقدرهم حق قدرهم، أو ندرك أو نلمس تلك الجوانب الخفية الرهيفة في أرواحهم، ثم بعد حين قد يطول أو يقصر تمر على البال تلك الومضات السريعة من الحياة التي اجتازوها أمام أنظارنا فيما لم تكن هذه الأنظار تلحظهم أو تتوقف عند مرآهم، فنصاب ساعتها بالندم.
الحياة أوسع وأرحب وأغنى وأكثر تنوعاً بالأشياء والظواهر والأفكار مما نظن. على طريق الحياة الطويل الممتد الذي نجتازه تكمن كل هذه الأشياء والأفكار والتفاصيل التي لشدة استغراقنا في أمرٍ من الأمور أو هدف من الأهداف لا نراها، كحال تلك الصبية في أغنية فيروز القديمة التي تبحث عن أمرٍ غامض مجهول فيما «الحلا عَ الطرقات». ولعل الأشياء التي تنشدها أرواحنا كامنة في الجوار إلى جنبنا، في زاوية نركن إليها، في شارعٍ محاذٍ لنا، في مكان نعرفه حق المعرفة لكننا لا نبصرها، ولا نراها، لأننا في أحيان كثيرة لا ندري بالضبط ما الذي تهفو إليه أرواحنا.
قد نبحث بعيداً فيما ما نريد هو هنا على مقربة منا. «حجر الزاوية هو الحجر الذي تجاهله البناءون». هكذا يصدر أمين معلوف إحدى رواياته نقلاً عن الكتاب المقدس. ومثال هذا الحجر ينطبق على الأشياء والأفكار والأشخاص، على ما هو مادي وما هو قيمي معنوي في حياة كل منا.
مرة شكا صبي من متاعب في عينيه أثناء القراءة، فأخذته أمه إلى طبيبة عيون، بعد أن فحصت نظره قالت انه بحاجة إلى نظارات طبية، وإنه كان من المتعين عليه أن يلبس هذه النظارات منذ سنوات. قالت الأم للطبيبة إنه لم يشكُ الأمر قبل ذلك أبداً، فأجابت الطبيبة: هذا يحدث غالباً، الإنسان لا يعرف أن بوسعه أن يرى أفضل، ويظن أن قدرته المعطاة على الإبصار هي نفسها القدرة القصوى.
لدى كل واحد منا أمر مشابه لحال هذا الصبي إذا تحدثنا عن البصيرة، لا عن البصر وحده. نحن نظن أن ما نراه ونعتقده ونأتي به من عمل هو الحدود القصوى لطاقاتنا، فإذا ما وضعتنا الحياة ذات يوم رائع على أحد منعطفاتها الصعبة كأنها تختبرنا، نكتشف هول ما أضعناه.