لم يكن انهيار الاتحاد السوفيتي في مطلع العقد الأخير من القرن الماضي زلزالا عالميا مدويا فحسب، بل صاعقا لملايين الشيوعيين في العالم الحالمين بجنته الاشتراكية، الذين ظلوا ينظرون إليه حتى اللحظة الأخيرة من حياته المثال والقدوة في حياتهم النضالية التي يتعشمون أن تتوج بتحقيق ما حققه الشيوعيون السوفيت من مجتمع “اشتراكي” خالٍ من الاستغلال الطبقي، متآخ بين أفراده تظلله راية المساواة والعدالة الاجتماعية، وهو ما كان “يغبطون” الشعب السوفيتي عليه باعتبار عماله وفلاحيه يرفلون منذ ثلاثة أرباع القرن في رغد البلد الاشتراكي الأول في تاريخ البشرية المعاصرة.
ومثلما جاء انهيار الاتحاد السوفيتي الذي بدا لملايين الشيوعيين مفاجئاً وعلى حين غرة صاعقاً فإن سرعة التحولات السياسية والاجتماعية التي توالت في روسيا منذ ذلك الانهيار حتى يومنا هذا بدت هي الأخرى في سرعة وحجم تواليها خلال عقدين فقط أكثر صاعقة في إثارة ذهولهم لما يحدث مبدداً كل تلك الهالة الضخمة الكاذبة عن المجتمع الاشتراكي السوفيتي المتآخي المتحاب بين أفراده وقومياته على اختلاف انتماءاتهم القومية والاثنية والدينية الذي لطالما حلموا بتحقيق نظير له يتوجون به نضالاتهم، وكم منوا مناضليهم بالوصول إلى مثل هذا المجتمع السوفيتي باعتباره المثال والقدوة الملهمة المحفزة لجذوة كل المناضلين، فإذا بمشاهد كل تلك التحولات الاجتماعية والسياسية المتسارعة تشعرهم كأنهم يفيقون وهم أشبه بحلم جميل طويل كان ولطالما خدِعوا وخدَعوا أنفسهم ورفاقهم بالترويج له طويلاً.
فمن يصدق اليوم كل ما حدث ومازال يحدث في بلد الاشتراكية الأول العظيم؟ فالبلد الذي ظل يعتبر البطالة من أكبر آفات الرأسمالية ونتاجا منطقيا حتميا للاستغلال الطبقي، وظلت البلاد بالفعل لا تعرف هذه الظاهرة طوال 75 عاما، يعترف رئيس وزرائه الكسندر جوكوف اليوم بأن عدد العاطلين في روسيا وحدها (دع عنك الجمهوريات السوفيتية الأخرى المنفصلة) 6 ملايين عاطل، وأن نصف مليون سيفقدون وظائفهم خلال هذا العام وبخاصة في المدن التي تعتمد على منشأة اقتصادية تشكل مصدر الرزق الوحيد لجميع سكان المدينة وقد بلغت نسبة البطالة 9%.
ومن ذا الذي يصدق أن البلاد التي لم تعرف ظاهرة “القطط السمان” آكلة لحوم البشر باتت من الظواهر المألوفة مثلها في ذلك مثل أي بلد رأسمالي آخر، لا بل ان المجسدين لهذه الظاهرة غالبيتهم من الرأسمالية الطفيلية الجديدة النهمة غير المنتجة بخلاف ما عليه الحال لأثرياء الرأسمالية المنتجة في الغرب؟ وحسب صحيفة سوبيسيد نيك الروسية (عدد 20/3/2010) فقد صعق المواطنون الروس حينما اطلعوا على ما نشرته مجلة “فوربس” الأمريكية عن أكبر أثرياء العالم بأن عددهم في روسيا وصل إلى الضعف خلال عام واحد فقط، فكان عددهم عام 2008م لا يتجاوز 32 مليارديرا في حين وصل عددهم عام 2009 إلى 62 مليارديرا، والله العالم كم سيبلغ عددهم خلال العام الجاري. والمثير للدهشة والاستغراب ان ذلك يحدث بينما الناتج المحلي الاجمالي سجّل انخفاضا قياسيا بلغ 8%، في حين ازداد تآكل الطبقة الوسطى، ومن مظاهر ذلك ارتفاع نسبة ذوي الدخل المحدود من 43% إلى 51%!
أكثر من ذلك فإن مدير معهد علم الاجتماع ميخائيل جورشكوف لم يتردد عن الافصاح بأن نحو 20 مليون روسي اليوم هم تحت خط الفقر جلهم من المتقاعدين أو الذين هم على أبواب التقاعد.
ماذا يعني ذلك؟ يعني ذلك بكل بساطة أن جل من خدموا الدولة الاشتراكية السوفيتية وضحوا من أجلها سنوات طويلة يرون أنفسهم الآن ملقين على الرصيف تحت رحمة القدر أشبه بالمتسولين لا حقوق لهم ولا ضمانات في ظل الرأسمالية الجديدة.
وإذا كان شر البلية ما يضحك فإن ظاهرة التسول التي لم تكن معروفة البتة في المجتمع الروسي طوال ما يقرب من قرن من الحقبة السوفيتية أضحت كتوأمها البطالة ليست منتشرة في المدن الروسية فحسب، بل الأنكى من ذلك ذات عوائد مجزية أكبر من العوائد التي يجنيها المتسولون في الدول الرأسمالية الغربية وذلك طبقاً لمعطيات دراسة أجراها معهد أبحاث روسي ونشرتها صحيفة “روسيسكايا غازيتا” التي نقلت عن الشرطة ان المتسول يكسب ما لا يقل عن عشرة دولارات في الساعة لكنهم يشكون من مزاحمة المتسولين المهاجرين الوافدين من دول الجوار الروسي. وإذا كان هذا هو حال العالم السفلي في أسفل الهرم الاجتماعي الذي تشكل منذ انهيار الدولة السوفيتية فإن العالم العلوي في أعلى الهرم لا يكتفي أفراده “القطط السمان” بما يشفطونه من أموال بل لا يتورعون عن ممارسة مظاهر الاستفزاز الطبقي بحق الأغلبية الساحقة من ملايين الشعب من المسحوقين ومن ذلك اقتناء السيارات الفاخرة والكمبيوترات والهواتف النقالة ذات آخر الموديلات، وإذا ما أضفت إلى كل هذه المظاهر انتعاش ورواج سوق الرقيق الأبيض وتصدير الفائض من بضائعه الناعمة إلى أوروبا الغربية، ناهيك عن الفساد الذي بدا في انتشاره كالسرطان المستفحل في الجسم إلى درجة لم يخف معها الرئيس ميدفيديف مراراً من أن يعبر عن جزعه منه ولاسيما ظاهرة رشو كبار المسئولين في الحكومة لحق لنا تفهم ما أزجته مجلة “بروفيل” الروسية مؤخراً من رثاء لما ارتكبته الرأسمالية الطفيلية المتوحشة الجديدة بحق الوطن، هي التي قامت على أنقاض المجتمع الاشتراكي السابق الذي لم يعرف كل تلك الظواهر مهما كانت علاته وأمراضه التي فتكت به، وما ارتكبته من جرم من تقويض أو اهتزاز كبير لمنظومة القيم والأخلاق الاشتراكية والدينية المتمازجة عرف الشعب الروسي، الأقرب للتقاليد الشرقية، بعراقة تحليه وتحضره بها، سواء قبل الحقبة السوفيتية أم خلالها، متمازجة مع القيم الاشتراكية الجماعية الجديدة إلى أن جاء الطوفان الرأسمالي ليكنس وليكتسح ما يستطيع اكتساحه.
صحيفة اخبار الخليج
16 يونيو 2010