المنشور

الأحزاب المذهبية السياسية في العراق (2,3,4)


تتشكل الأحزابُ المذهبية السياسية سواءً أكانت فُرقاً كما في الماضي، أم شللاً وكيانات اجتماعية كما في الحاضر على بعضِ الشعاراتِ الفقهيةِ المفصولةِ المُنتزعة من الكلِ الديني مع غيابِ الدراية الواسعة بالإسلام، فالأهدافُ السياسيةُ تقفزُ وتركبُ على المادةِ الدينيةِ غيرِ المُحللةِ وغيرِ المدروسةِ، كما في لحظة الخوارج حيث يُـقطعُ شعارُ لا حكم سوى القرآن من سياقهِ الكلي ومن تجربةِ المسلمين العامة، ويُعلقُ في العملِ السياسي الذاتي التمزيقي؛(قضيةُ حقٍ أُريدَ بها باطل).
إن الأحكامَ المقطوعةَ والجزئيات المُنتزعة والشعارات المصنوعة هي كلها بهدفٍ سياسي غائي تكيتكي، أما جسم الدين فهو مادة خام مُغيبة.

وبهذا لم يكن الأئمةُ سياسيين بعد حرب صفين، وفصلوا الفقهَ عن السياسة، وتشكل للسياسةِ أصحابها، لكن من خلالِ امتطاءِ الفقهِ للمصالح السياسية والكراسي.
وقد وجد السياسيون الحديثون من المذاهب بعد جور رأسمالياتِ الدول المُسماة اشتراكيةً وقومية، في العراق خاصةً، انهم مدعوون لتجنيدِ المذهبين الشيعي والسني، وكذلك المذاهب والأديان الأخرى المتعددة في العراق، لعدمِ الذوبان أمام هذا السحق الحكومي.

لكن جرى ذلك من خلالِ القفزِ على ظهرِ الدين، وباعتمادِ المادةِ المحافظة الاستغلالية التي تكرستْ خلال القرون السابقة، فهم كذلك مثل (الاشتراكيين والشيوعيين والقوميين) لم ينتجوا ثقافةً ديمقراطيةً ولم ينظروا للعامةِ كبشرٍ مستقلين ومنتجين، وكرسوا تخلفَهم في المظاهرِ العبادية المتعددة، وأججوا التعصبَ بينها، والانفصالَ عن بقيةِ المسلمين، ولهذا كان كفاحُهم ضد الدكتاتورية دكتاتورياً متخلفاً، كهاربٍ من الرمضاءِ إلى النار.

إن التمزقَ الوطني يقود للتمزق القومي، ودين التوحيد يتحول لديهم إلى دين التمزيق، وراحت الأجسام المذهبية السياسية تتكاثر خاصة لدى الشيعة والأكراد، بسبب تحويل النظام واجهته الايديولوجية البعثية إلى واجهةٍ مذهبية زائفة هي الأخرى ومتعصب لها، وهيمنةُ مصالحِ الحكمِ تتحولُ إلى إفقارٍ للجماهير عامة، وخاصةً غير الملتحقة بمؤسساته السياسية.

إن غيابَ الانتماء القومي هنا يتحولُ لولاءات خارجية، ونرى هنا كيف أن مظلة العصور الوسطى التمزيقية تجر هذه الكيانات السياسية لخرائطِها القديمة، بدلاً من مراكمة الوطنية الديمقراطية العراقية.

وليس في الكيانات المذهبية السياسية رؤىً فكريةً فهي تعجزُ عن صنعِ ذلك، بسببِ غيابِ أي مرجعيةٍ فكرية عميقة، فتلصيقُ جملٍ سياسيةٍ مقطوعةِ السياقِ بالإسلام لا يشكلُ رؤية خاصة أن هذه الجماعات تأخذ المبنى الديني المحافظَ وليس العناصر الديمقراطية في الإسلام. ومن زمن الخوارج حتى الآن يعتمدُ التنظيمُ المذهبي السياسي على الزعيمِ الفرد، والانقساماتُ فيها هي انقساماتٌ فردية، مرتبطة بالقبائل والعائلات والمناطق وليس بالأفكار الخلاقة.

إن التنظيم المذهبي السياسي هو تنظيمٌ فردي، أي يتشكل من خلال شخص، فهو غير قادر على بث رؤية ديمقراطية لأنه مشكل بصورة شمولية، وبهذا تتوالدُ التنظيماتُ حسب صراعات الزعماء والعائلات، وتقود في الممارسة السياسية الحكومية إلى تصاعد هذه الجماعات الخاصة التي انسلختْ عن المسلمين عامةً، ثم تروح تنسلخُ عن طوائفِها التي زعمتْ تمثيلها، وتصعد في عالم الفساد.

وجه للسيد نوري المالكي رئيس وزراء العراق نقدٌ بارزٌ في أثناء الانتخابات بكون وزارته حصلت على 300 مليار دولار أن يظهر أثرٌ لهذه الأموال على الأرض الاجتماعية؟!

سنقرأ لاحقاً مثل هذه الحيثيات، لكن لابد من القول هنا بأن الأدلجة الشمولية سواءً أكانت مذهباً أم فكرة عصرية هي واحدة، حيث انه يجري غرس الديمقراطية في شعوب تعيش ثقافة الاستبداد الطويل، ويتم جرها من خلال هذه الأدلجة التعصبية عادة، لكنها ليست فاقدة للتبصر أو للتعلم، بل هي تراكم تلك العناصر الديمقراطية الصغيرة الضائعة في ثقافات الشمولية المختلفة، عبر جوعها وأجورها المتجمدة وعبر نظرتها للأحزاب غير المفتوحة للحوارات والتحليلات والصدق والموضوعية.
وبطبيعةِ الحال كانت تجربة الشعب العراقي مريرة جداً وقاسية وإمكانات تسلل النظر الموضوعي، وتصاعد موقف وطني، وتشكيل شيء من المقاربة بين أغلبية هذه الجماهير الممزقة من الشمال والجنوب والغارقة في التفجيرات والافساد، تبدو مستحيلة، لكن حدث هذا المستحيل، وأمكن لجماهير كبيرة أن تتحد وتتجاوز المذهبيات السياسية الكلية الهيمنة.

صحيفة اخبار الخليج
16 يونيو 2010


الأحزابُ المذهبية السياسية في العراق (3- 4)

بعد هيمنة الأحزاب المذهبية السياسية السنية والشيعية بعد هدم النظام السابق، بدأ شيءٌ سياسي جديد ينمو في حياة العراقيين، هو رفض أولي لحالات التمزيق السائدة:
(اظهر استطلاع للرأي أجراه المركز الوطني للإعلام التابع لأمانة مجلس الوزراء في العراق ونشرت نتائجه الاثنين 19-1-2009 ان غالبيةَ الناخبين تؤيد القوى العلمانية على القوى الدينية والقومية).

وقال علي هادي محمد المشرف العام على المركز في مؤتمر صحفي إن “الاستطلاعَ الذي شمل جميع القوميات والأديان يؤكد حصول التيار العلماني على 42% مقارنة بالتيار الديني 31%”، وذلك رداً على سؤال حول من يقدر على قيادة البلاد بشكلٍ أفضل. وشمل الاستطلاع 4500 شخص في جميع المحافظات وعددها 18).

بدا ان مثل هذه الاستطلاعات هي مجردُ توجيهات لتأسيس انطباعات متجذرة لدى الناخبين، ولكن كان هذا فرزاً مهماً بدا يتشكل في وعي الجمهور المبتعد قليلاً قليلاً عن هذا العالم الشمولي الذي ساد خلال حقبة طويلة، وكان هذا الجمهور قد حلم بأن تقوم القوى الدينية والقومية بتغيير حياته وأعطيت الفرصة الكبيرة لكنها لم تقم بذلك.

علينا أن نرى أن ثمة تغييرات كبيرة قد جرتْ، فآلةُ الدولةِ المركزية الشمولية الكبرى قد تفتتْ لكنها وُرثتْ من قبل هذه الجماعات الجديدة، وقد وضحنا أسباب عدم قدرة القوى المذهبية السياسية والقومية الشمولية على مقاربة تطلعات أغلبية الناخبين، بكونها قوى فوقية محافظة داخل أجسام المذاهب والأفكار القومية ولم تشكلْ علاقات ديمقراطية داخل أجهزتها وعبر العلاقة بالجمهور، ولا تكفي هنا البرامج الرنانة للحصول على تأييد الناس.

وجرى انفصالٌ بين قياداتِ وجماعات هذه القوى والجمهور الأكثر وعياً والمنفصل عن التعصبِ والباحث عن تطورِ معاشه وحريته، فيما كانت الأحزابُ المذهبية والقومية تقدم شيئاً آخر.

جاءت نتائجُ الانتخابات بمفأجاةٍ هي تراجعُ القوى الدينية والقومية وقيام القائمة العراقية العلمانية باختراق حتى بعض المناطق الدينية في الجنوب.
من هي القائمة العراقية؟

(ويضم ائتلاف “القائمة العراقية الوطنية” قوى عَلمانية شيعية وسنية، من أبرزها حركة الوفاق الوطني العراقي بزعامة رئيس الوزراء السابق إياد علاوي، وحركة التجديد التي يقودها نائب رئيس الجمهورية العراقي طارق الهاشمي، وجبهة الحوار الوطني بزعامة السياسي السني البارز صالح المطلك، وتجمع “عراقيون” بزعامة أسامة النجيفي.).

(وأعلنت مصادر اعلامية مشرفة على عمليات الفرز أن “القائمة العراقية” حلتْ في المرتبة الثانية في ثلاثِ محافظاتٍ جنوبية (بابل والمثنى والبصرة)، لكنها جاءتْ في المرتبة الثالثة في ست محافظات أخرى من جنوب العراق، بعد الائتلاف الوطني، الذي يضم الأحزاب الشيعية الرئيسية باستثناء حزب الدعوة تنظيم العراق).

أي أن الاختراقَ ألغى تحجرات الطوائفِ التي حاولوا رسمها وحفرها في عظامِ الشعب، ولكن لماذا حدثَ ذلك بعد هيمنة دينية وقومية هائلة؟
لم تستطعْ هذه القوى أن تعطي صورةً مغايرة للطبقة الحاكمة عن النظام الشمولي السابق، أي استخدام العنف والقوة والاستغلال وطرح قضايا هامشية وتدخل في خصوصيات المواطنين وطرح شكلنة الإسلام، أي الاصرار على محاربة ما يسمونه الفجور والمتع والمشروبات و(الحداثة)، فتحولتْ إلى قوى متسلطةِ أكثر حدةٍ من السابق في شعبٍ تشربَ العلمانيةَ منذ عقود، أما القضايا الرئيسية المُنتظر حلها كالبطالةِ الواسعة والفقر والفساد وغياب العدالة في توزيع الثروات بين الطبقات والأقاليم والمناطق فقد طُمست.

وإضافةً للعجز عن محاربة القوى العنفية الإرهابية ونشر القمع الفكري للمعارضين، توجهتْ المجموعاتُ المذهبية لتصفية الجماعات الدينية من الأقليات.
(يقول رئيس الحركة الايزيدية من أجل الإصلاح والتقدم أمين فرحان جيجو إن “هناك تراجعاً قوياً للحريات الدينية في العراق خلال السنوات القليلة الماضية ولعدة دوافع منها ما يتعلق بالتطرف الديني وأخرى تتعلق بالإرهاب”.

ويضيف جيجو في حديث لـ “السومرية نيوز”، ان “تراجع وانحسار الحريات الدينية في العراق يعودُ أيضاً إلى عدم تطبيق القوانين والقرارات الدستورية التي تتعلق بحرية المعتقد الديني وحقوق الإنسان في العراق”، معتبراً أن “هناك أحزاباً لديها توجهات دينية ليس لها علاقة بالدستور والقانون العراقي”، بحسب تعبيره.).
ويصف جيجو دور الحكومة بأنه “دور جامد وسلبي في حماية الأقليات الدينية”، مضيفاً أن “هذه الأقليات أصبحت بوابة للصفقات السياسية بين الأحزاب الكردية والأحزاب العربية الموجودة في السلطة”.

ويلفت المرشح الايزيدي الفائز في الانتخابات إلى أن “قرارات اتخذت في بعض المدن العراقية في الفترة الماضية تمنع تناول المشروبات الكحولية وهي تدلل على وجود توجهات دينية بحتة نابعة من أحزاب لا تؤمن بالدستور ولا بالقوانين العراقية”.

ويحتوي الدستور العراقي، الذي تم إقراره في أكتوبر 2005 بموجب استفتاء شعبي، عدة أحكام تكفل حقوق الأقليات. إذ ينص صراحة في مادته الثانية الفقرة ثانيا على ضمان كامل الحقوق الدينية لجميع الأفراد في حرية العقيدة والممارسة الدينية، كالمسيحيين، والايزديين، والصابئة المندائيين، أما المادة الثالثة فتقر صراحة بأن العراق دولة متعددة القوميات والأديان والمذاهب.

وطبقاً للمادة 14 فإن جميع العراقيين “متساوون أمام القانون دون تمييزٍ بسبب الجنس أو العرق أو القومية أو الأصل أو اللون أو الدين أو المذهب أو المعتقد أو الرأي أو الوضع الاقتصادي أو الاجتماعي”.

قام النظام السابق بدءًا من عام 1994 بتدخلات عميقة في حريات المواطنين الاجتماعية بعد أن سلبهم حرياتهم السياسية، وكان هذا جزءاً مما يُعرفُ باسم “الحملة الإيمانية” التي أطلقها، ونص على أن للمحافظين صلاحية إغلاقِ الملاهي وصالات الرقص والنوادي الليلية ومنح إجازات بيع الكحول لطوائف غير مسلمة حصراً. وكانت القوات الأمنية العراقية في عهد الطوائف الراهن قد أغلقت خلال الأيام الماضية، عدداً كبيراً من محالِ بيع المشروبات الكحولية والنوادي الليلية في عموم مناطق بغداد الأمر الذي أثار استغراب أصحاب تلك المحال.).

مثلتْ الجماعاتُ المذهبيةُ والقومية المتشددة استمراراً للنظام السابق الذي حين عجز عن نشر المساواة والتقدم تعكز على الشرع! ودائماً يتصورون الشرعَ مطيةً سهلةً يستغلونها لمآربهم.
 
أخبار الخليج 18 يونيو 2010
 
 
الأحزاب المذهبية السياسية في العراق (4 -4)


لابد أن تكون الأحزابُ المذهبيةُ السياسية تفكيكيةً تفتيتية لكيانِ المسلمين، لكونها يمينية من قوى استغلالٍ ليست تحديثية ديمقراطية، فتكون أنماطُ إداراتِها ذرائعية انتهازية مرتكزة على ذاتِ الأبنية الاجتماعية المتخلفة، ونظراً لعملياتِ التفكيك التي تقومُ بها للُبنى السياسية للبلدان العربية والإسلامية فهي تعيدُها للوراء، للصراعاتِ الداخلية الجانبية، غير قادرةٍ على تلمسِ عناصر الديمقراطيةِ في التراثِ العربي الإسلامي وفي الواقعِ المعاصر، لكون تلك العناصر تعتمدُ على التوحيدِ لا التفتيت، وعلى العقلانية وليس على اللاعقلانية، مما يقودُها وهي تستغلُ الجهلَ الجماهيري وغيابَ قواعدِ المحاسبةِ الشعبية، إلى تكسيرِ بُنى الاستقلال والتقدم القائمة على التوحيد في كل بلدٍ عربي إسلامي. لكن الأطر الحديثة من الديمقراطية الواهنة ليست محايدة كلياً، وفيها فرص لتطور الجمهور أيضاً.

إن الهجمةَ السريعة من الأحزاب المذهبية نحو التنظيمات الديمقراطية الجنينية هذه عبر استخدامها قصور التجربة الجماهيرية التحديثية، هي جزءٌ من خلطٍ يقوم به المشرعون لهذه العمليةِ الديمقراطية، ووجود نيات سياسية مصلحية تكتيكية مؤقتة لديهم، لا تغوصُ في تكريسِ الديمقراطية بشكلٍ عميق، فهم يسعون لأغراضٍ أخرى، كحدوثِ استقرارٍ مؤقت أو لإبقاءِ التركيبات المذهبية واستخدامها في الصراعين الوطني والإقليمي.

لكن هذه التركيبة المذهبية السياسية الطافحة فوق الجهل الجماهيري تؤدي إلى فساد كبير، وتنامي ثروات هذه النخب المذهبية السياسية وعضها بالأسنان على فتاتِ السلطة التي هرولتْ إليها، مما يؤدي إلى عكس ما كان يريده وتحفز له الجمهور!

التركيزُ في شكلنةِ الإسلام وشكلنةِ الديمقراطية يتجسدُ بهذه السيطرة من خلال تلك الأشكالِ العبادية خاصة، وهي أشكالٌ مختلفةٌ مغايرة بين المسلمين، مما يصعدُ التقسيمَ والنزاع وتغييبَ الوعي والتوجه نحو مسائل الصدام بين المسلمين وتهميش وعيهم العصري الحقيقي واصطدامهم مع اخوتِهم المواطنين من أديانٍ أخرى كما رأينا حول أوضاع مذاهب الأقليات الإسلامية والمسيحية في العراق.

في العراق تمظهر ذلك أيضاً بصفقاتِ الفسادِ السياسية المتعددة، فالأحزابُ المذهبية والقومية تركز في التشبث بالسلطة وتعقد صفقات فيما بينها، وتجعلُ الديمقراطيةَ توافقية(؟)، أي تمثل دكتاتورية هذه النخب، يقول أحدُ الكُتاب العراقيين:

(ولابد أن نتذكر هنا صفقة 2007 بين طرفي الحكم (التحالف الكردستاني) و(الائتلاف العراقي الموحد) التي أدتْ إلى إطلاقِ مئاتِ السجناء المدانين بقضايا فسادٍ مالي تُقدر بمليارات الدولارات، مقابل رفع حصّة إقليم كردستان في الموازنة السنوية من 13 بالمائة وفقاً لتقديرات الأمم المتحدة لحاجاتِ الإقليم إلى 17 بالمائة التي يتم إنفاقها من دون رقابة عادة فهي لا تذهب لمصلحة المواطنين الأكراد بالضرورة !!)، كريم عبد.

ويجوهرُ الكاتبُ وضعَ العراق عبرَ هذه الإدارات بقوله:
(بدا الاضطرابُ واضحاً في السياسةِ المالية والاقتصادية إذ تخلّفت الصناعةُ والزراعةُ وتحولَ العراقُ إلى بلدٍ استهلاكي قل نظيرهُ في بلدان العالم، ذلك أن 80 بالمائة من الموازنات السنوية تُخصصُ للشؤون التشغيلية، أي لرواتب الموظفين ونفقات الوزارات، بينما أقل من 10 بالمائة للتنمية!!).

إن مسائلَ المذهب هنا جعلتْ الناخبين في البدايةِ يطمئنون لهذه الذممِ السياسيةِ المتعكزة على المقدس، لكن الأخطر من عملياتِ الخداع هنا هو تفكيك الإرادة الشعبية، بجعلِ المواطنين ضعفاء ممزقين أمام هذه النخب الصغيرة، التي تفتتُ صفوفَهم عبر تلك الأدوات (الدينية)، وبالتالي تبعدُ وعيَهم عن تتبعِها وكشفِ ممارساتِها، ومتابعة مصالح البلد الموضوعية، وتؤجج صراعاتِ المذاهب والأقاليم والقوميات لكي تستمرَ في الاستحواذ على غنائم الحكم.

لكن هذه العملية لا يمكن أن تستمر ولا يمكن أن تكون سائدة على مختلف القطاعات، ولهذا تغدو العلمانية السياسية إبعاداً لتلك المتاهات التي يريدون إيجادها وإحداث النزاعات وتقسيم الصفوف، فيحدث التركيز في المصالح العامة والظروف الموضوعية، وجعل الميزانية وطنية تابعة لحاجات الشعب.
هذا يؤدي إلى ابتعاد البلد عن المحاور الإقليمية والنزاعات الكارثية وتوحد المواطنين والهيئات السياسية، وهو أمرٌ راحتْ جماهير عراقية عديدة تستوعبهُ بسببِ الضرائب الدموية الباهظة التي دفعتها لحرامية الأوطان والأديان.

ومع تشكل القائمة العراقية من فاعلياتٍ سياسيةٍ مذهبية مختلفة، تم إبعاد التسييس للمذاهب، وطرح برنامج وطني محض، يتسمُ بالتركيز في القضايا الاقتصادية والاجتماعية والتنمية خاصة، وسحب البساط من هذا التعكز على المقدس، ولم يكن بإمكان مثل هذه العملية أن تحظى بتأثيرٍ عميقٍ مع سيطرةِ الأحزاب المذهبية والقومية على أجهزة الإعلام وأدوات السلطة، وكان حزب رئيس الوزراء الحالي قد استخدم التلفزيون بشكلٍ يومي لبثِ دعاياته المختلفة، ومع هذا فإن الفشلَ كان حليفهم، وقسم كبير من الجمهور وصلت إليه حقائق الموقف السياسي بمعاناته الخاصة، وبفشل الأحزاب المذهبية في تطوير العراق، لكنهم كذلك مستمرون في إبقاء المظلة السياسية نفسها التي راحت تتمزق.


أخبار الخليج 18 يونيو 2010