يُعد كتاب “ألف ليلة وليلة” واحدا من عيون التراث الإبداعي العربي الذي ألهم أجيالا متعاقبة من الأدباء والمثقفين العرب على امتداد قرون منذ صدوره، مثلما ألهم ومازال يلهم أجيالا من الأدباء والمثقفين الغربيين ومن ضمنهم على وجه الخصوص المستشرقون والمستعربون وهو بهذا يُعد مفخرة لأي أمة ينتمي إليها هذا الأثر العظيم وتتمتع بحد أدنى من موفور الصحة النفسية والاستنارة العقلية، وباسم هذا الكتاب الذي تنمي مادته الخيال الخصب في الإبداع الغني بمضامينه المتعددة المختلفة غنت الفنانة الكبيرة المصرية الراحلة أم كثلوم إحدى أغانيها باسمه، كما غنت نظيرتها في القمة الإبداعية فيروز عن شهرزاد وشهريار في واحدة من أمتع أغانيها، وأطلق هذا الاسم على مسارح ومطاعم ومكتبات عربية لا حصر لها.
وصدرت طبعات متعددة منه على امتداد قرن ونيف من تاريخنا العربي الحديث في العواصم العربية العريقة في إصدارات الكتب وخاصة القاهرة وبيروت ودمشق وبغداد هذا بخلاف العواصم العربية الأخرى.
وكانت الأكاديمية واستاذة الأدب الكبيرة الراحلة سهير القلماوي من أشهر من كتب عن هذا الأثر التراثي العظيم “ألف ليلة وليلة”، حيث إن رسالة الدكتوراه الخاصة بها كانت عن هذا الموضوع تحديدا بتشجيع من عميد الأدب العربي طه حسين الذي أشرف على الرسالة ووضع مقدمتها بعد اصدارها في كتاب.
لكن أوصياء الفضيلة والأخلاق الذين شنوا حملة شعواء على هذا الكتاب في أواسط ثمانينيات القرن الماضي بحجة ما يتضمنه من عبارات تخدش الحياء وخسروا معركتهم حينئذ أمام القضاء المصري برفض الدعوى المقامة لمصادرته من سوق الكتاب عادوا من جديد ربما بأسماء جديدة يحملونها لكن لا تختلف عقلياتهم عن عقليات أسلافهم في الثمانينيات ليشنوا حملة جديدة ضد صدور طبعة جديدة من الكتاب ضمن سلسلة الذخائر التي تصدرها “هيئة قصور الثقافة” في مصر، وجندوا لهذه الغاية أي لمعركتهم الجديدة التي يخوضونها ضد واحد من الآثار الحضارية المضيئة لأمتهم تسعة محامين ينتمون لمكتب محاماة واحد برفع بلاغ للنائب العام ضد “قصور الثقافة” التابعة لوزارة الثقافة.
وعلى الرغم من مضي أكثر من شهر على إثارة هذه الدعوى الاحتجاجية الجديدة فإن الحملة المضادة لتعرية تهافت ذرائع وحجج مثيريها مازالت متوالية ومستمرة بكل قوة فوق صفحات عدد كبير من الصحف المصرية وفي وسائل الإعلام وفي الأنشطة والفعاليات الثقافية والأدبية الأخرى، ومازالت بيانات التنديد والاستنكار الجماعية والفردية ضد مصادرة “الليالي” في قاهرة المعز المعروفة بألف ليلة وليلة طوال عمرها الإسلامي الحافل بالإشعاعات الحضارية المبددة للظلام حتى في عصور ما قبل الكهرباء وهو الظلام الذي يحاول ان يقهر تلك الإشعاعات عبثا في عصر الكهرباء، مازالت مستمرة.
كانت حيثيات الحكم الذي أصدره القضاء المصري عام 1986 المعروف بنزاهته واستنارته خير رد على تهافت ذرائع مصادرة “ألف ليلة وليلة”، فهو لم يكتف بالاستشهاد برسالة الدكتوراه للراحلة سهير القلماوي الآنفة الذكر بل استشهد بما ورد من عبارات غزل في كتب تراثية عديدة لا تقارن في صراحتها بما ورد في “الليالي”.
أكثر من ذلك فقد كان القاضي سيد محمود يوسف ليس ضليعا في القانون فحسب بل كان على درجة كبيرة من الثقافة العامة والذائقة الأدبية المستنيرة وهذا ما نتلمسه ضمن حيثيات حكمه عام .1986
“ومن حيث انه لما يؤكد ذلك ان مؤلف ألف ليلة وليلة كان مصدرا للعديد من الأعمال الفنية الرائعة ومنه استقى كبار الأدباء في العالم والعربي منه خاصة روائعهم الأدبية، الأمر الذي ينفي عنه مظنة اهاجة تطلع ممقوت أو الإثارة الشهوانية لدى قرائه إلا من كان مريضا تافها، وهو مما لا يحسب له حساب عند تقييم قيمة المطبوعات الأدبية الطبية”.
لو أن أي شعب أو أمة من الأمم انتسب الى تراثها هذا الأثر الإبداعي الكبير الذي ألهم وأثرى خيال أجيال متعاقبة من المبدعين والكتّاب في العالم لما فتئوا يؤلفون آلاف الكتب افتخارا وتمجيدا به كآية من آيات عظمة حضارتهم، لا بل لخجل حتى التيار الظلامي المتشدد الحاكم في طهران من مصادرته، هو المعروف وسائر التيارات الفكرية بهوس وولع اعتزازهم القومي بكل أثر ايراني يحظى بشهرة عالمية غثا أم سمينا.. لكن لأننا نعيش في أشد عصورنا ظلامية كما يريد لنا روّاده ان نعيش من أوصياء الفضيلة والأخلاق الضيقي الأفق، فلا غرابة إذا ما ظهر بيننا من يزدري حضارته، وان يحاول عبثا التصدي لمن يحاول تسريب وإحياء إشعاعاتها من مخازن تراثنا العظيم الى الخارج لتسطع على ظلام الحاضر.
صحيفة اخبار الخليج
14 يونيو 2010