يتجمد وعي الإصلاحيين الإيرانيين في المسائل الحداثية الكبرى للعصر وخاصةً في مسألة العلمانية. فيقومُ بمناوراتٍ ايديولوجية وسياسية حولها.نتابعُ أفكارَ السيد بهزاد نبوي المسئول السياسي الكبير السابق الذي حُكم عليه بالحبسِ خمس سنوات في الثورةِ الخضراء، يقول:”أود أن أقول أولاً إنني لستُ من العلمانيين، بل اعتقدُ بالحكومة الدينية، ونظام ولاية الفقيه هو أحدُ وجوهِ الحكومة الدينية. في الفقهِ الشيعي هناك بعضُ الفقهاءِ وعددهم ليس كبيراً ممن يؤمنون بنظرية ولاية الفقيه وكان الامامُ الراحلُ الخميني واحداً منهم. ونظراً الى انه كان قائدُ الثورة ونظرةُ ولاية الفقيه كانت نظرته حول الحكومة فإننا بسببِ إيمانِنا به وبسياساته، قبلنا بولايةِ الفقيه في إطارِها الدستوري”، السابق.
تحددُ هذه العبارة تاريخيةً مبهمةً لكننا نستطيعُ أن نوضحَ أشياءَ فيها، فتشيرُ كلماتُ الضميرِ الجماعي في (قَبلنا) وغيرها، إلى الكتل التحديثية (الثورية) و(اليسارية) و(الليبرالية) التي قَبلتْ بقيادةِ الإقطاع الديني، بعد الضرباتِ الموجهةِ للبرجوازيةِ الوطنية بعد مصدق، حيث غدا هذا الإقطاعُ هو الجسم السياسي المتنامي في حضن المجتمع الذي له تاريخٌ سابق طويل، وحاولت قيادة الخميني الجمعَ بين المحافظين الدينيين وأولئك الليبراليين الرافضين خاصة للعلمانية، وتم التحاقُ هذه النخبِ بهذه القيادةِ الدينيةِ التي جذبت الجسمَ الديني الواسعَ للسيطرةِ على أجهزةِ الدولة والحياة الاجتماعية.
لقد عبرتْ الكتلُ الليبراليةُ واليسارية واليسارية المتطرفة عن هذا الفشلِ في تثقيفِ الشعبِ وتنويرهِ وعدم اتخاذ مواقف صائبة عميقة خلال العقود السابقة، عبر اعتمادِها على نقل “الموديلات” النظرية السياسية الخارجية، والأخطر كان اعتمادُ بعضِها على العنف المسلح المغامر، مما أدى إلى حرق وتحجيم هذه الكتل على درجاتٍ مختلفة.ولهذا كانت ولايةُ الفقيه هي تعبيرٌ عن إفشالٍ لإصلاحية آيات الله العظمى المتدرجة وقفزٌ عليها، كما أنها تذويبٌ للمنظماتِ الليبرالية واليسارية وعدم الاعتراف بها عمليا، أي هي شكلُ الدكتاتورية الايديولوجية السياسية الحاكمة.
وبطبيعةِ الحال لابد أن يكونَ هذا الشعارُ السياسي غيرَ مقبولٍ للغالبية من شيوخ الدين الشيعة نظراً إلى جرهِ إيران إلى مغامراتٍ سياسيةٍ وعسكريةٍ محفوفةٍ بالمخاطر كما أثبت التطورُ ذلك، لكنهم لم يناقشوه ويحللوه.ويشيرُ تعبيرُ السيد نبوي هنا إلى ذيليةِ هؤلاء الليبراليين الدينيين في العمليةِ التاريخيةِ، وقبولهم بالدكتاتورية الصاعدة، وعدم فهمهم للعملياتِ التاريخيةِ التي جرتْ للإيرانيين وللمسلمين عامة.
إن لحظةَ قيادةِ البرجوازية الصغيرة من قبل دينيي الثورة، للصراع الصعبِ المفتوحِ والمجهول تدفعُها إلى مقاربةِ الليبراليين، إنها لا تُظهرُ هنا في لحظةِ التشكيلِ المتلهبة كلَ شخصيتها، فهي لا تزالُ في القاع الاجتماعي ولم تتناثرْ عليها الثرواتُ بعد، وهي بحاجةٍ إليهم، ويمكن أن تتقاربَ مع سماتٍ معينة كالحرية والشعب والدستور وغيرها لكنها تؤسسُ الدولةَ وبناءَها الاقتصادي، فترتفعُ الفئاتُ الوسطى الكبرى عن تلك البرجوازيةِ الصغيرة التي تجسدتْ في الأئمةِ البسطاءِ الفقراءِ، وفي المثقفين الشعبيين المضحين، ولكن حراكَ الحداثةِ لديها لا يجعلها تنطلقُ في الحرية والعلمانية والديمقراطية الحقيقية، فلجامُ الإقطاعِ يوقفُها ويضغطُ على فمِها وعقلها، فهي تنتفخُ عبرَ مؤسساتِ الرأسمالية الحكومية التي يحددُ خطوطَها العريضةَ الإقطاعُ الديني بأهدافه.
والليبراليةُ الدينيةُ تريدُ الاستمرارَ في هذا التحول البنائي الرأسمالي الحكومي نحو الرأسمالية الحرة والانتخابات الحقيقية والديمقراطية والحريات، لكنها وقعتْ في القبضةِ العامةِ للمؤسساتِ المعبرةِ عن القوةِ الأساسية في هذه الطبقة الحاكمة وهي قوة المحافظين المعبرين عن ذلك الإقطاع الديني التاريخي الموروث الذي خنقَ الثورةَ الإسلاميةَ الأولى وشكل الدولَ العضوض على صفحات التاريخ الواسعة.
الحبلُ الأولُ من ذلك اللجامِ هو إلغاءُ العلمانية في دولةِ المحافظين، وهي المعبرةُ عن حاجاتِ الأغلبيةِ الشعبيةِ المسلمةِ خاصةً في الانفكاكِ من “سيطرةِ” الإقطاعين السياسي والديني، الموسومة باسم الإسلام. يقول السيد نبوي:”وبالطبع فان مبدأ ولاية الفقيه في الدستور يجب ألا يكون في التناقض مع بقيةِ المبادئ والاصول الدستورية. أي ألا يأتي فوق الاستقلال والحرية والجمهورية الاسلامية.
إن ولاية الفقيه التي نقبلُ بها ليستْ سلطةً فوق سلطة القانون والدستور. إن المادة الـ 110 في الدستور حددتْ بشكلٍ واضحٍ حدودَ وابعاد صلاحيات وسلطات الولي الفقيه) السابق. إن مبدأ ولايةِ الفقيه لم يكن في تضاد مع الدستور بل هو رتبَ موادهُ لتكريسِ ذاتهِ فيه، وجعلَ الولي الفقيه مهيمناً عبر مؤسساتٍ خاضعةٍ له، وهي كلها تعبرُ عن هذه البيروقراطية الدينية العسكرية المالية الحاكمة، وليستْ عن هذه التعبيرات المجردة: الشعب، والأمة والمسلمين …الخ.
يفهم الليبراليون الدينيون الحقبة الراهنة كما تشاء إسقاطاتهم الفكرية، وأمانيهم الحالمة، لكن مفردات الواقع الحقيقية لها أسنان قوية سوف تعضهم بقوة شديدة.
أخبار الخليج 12 يونيو 2010