قضية البرنامج النووي الإيراني تشبه إلى حد بعيد حالة بورصات الأسهم العالمية، فملفها الذي أصبح من الملفات المسجلة (Registered Cases) والمعتمدة قيد التداول في بورصة العلاقات الدولية ثنائية ومتعددة الأطراف، مثله مثل ‘ملف’ أسهم الشركات المسجلة (Registered companies) والمعتمدة قيد التداول في البورصات المحلية والإقليمية والعالمية. فأسهم هذا ‘الملف’ تطلع وتهبط، تماماً كما هو حال أسهم الشركات المسجلة في البورصة ضمن وتيرة التداول اليومية الاعتيادية الجارية. وفجأة تحدث انعطافة ما سرعان ما تجد تجسيداتها في حجم التداول الحاد والعصبي الذي يخيم على أجواء بورصة ‘الملف’ إياه.
أكثر من مرة شهد فيها الملف النووي الإيراني انعطافات حادة تصاعدت وتسارعت وتيرتها في سرعة متناهية ووصلت في عديد حالاتها إلى حافة شن الحرب الأمريكية على إيران، حتى صار من البديهيات أن تترافق موجات التصعيد المفاجئة التي يشهدها هذا الملف بين فترة وأخرى، مع ظهور سيناريوهات بحبكات عجيبة حول الحرب المُحَتَّم وقوعها (في أي لحظة من وقت بدء إطلاق التكهنات والسيناريوهات)، وبعضها لا يخلو بالمناسبة من موضوعية متكئة على ظاهر وطبيعة التحركات والمعطيات ذات الصلة مباشرة بالموضوع.
إنما وعلى حين غرة أيضاً، سرعان ما تختفي تهديدات الحرب ويتوقف دق طبولها.
حدث ذلك إبان ولاية الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش التي استمرت ثمان سنوات والتي نشأت خلالها أزمة البرنامج النووي الإيراني وتحولت إلى إحدى أهم القضايا التي تتصدر أجندة السياسة الخارجية الأمريكية.
وكما أسلفنا فلقد كانت قضية الملف النووي الإيراني قيد التداول الاعتيادي بين الفرقاء الأساسيين المعنيين بها، وهم هنا الولايات المتحدة الأمريكية التي تحرص دائماً حين التحدث عن هذه القضية أن تتحدث باسم الأسرة الدولية (رغم أن أحداً لم يكلفها أو يخولها بذلك)، وبعض الدول الأوروبية الرئيسية الحليفة للولايات المتحدة في شمال الأطلسي (الناتو) مثل فرنسا وبريطانيا وألمانيا، والوكالة الدولية للطاقة الذرية.
وفجأة حدث تصعيد مفاجئ في الموقف من جانب الولايات المتحدة تجاه إيران، حيث شهدت الأسابيع القليلة الماضية تحركات دبلوماسية وضغوطاً سياسية أمريكية في كل الاتجاهات من أجل تحقيق إجماع دولي في مجلس الأمن الدولي الذي يضم بالإضافة إلى الأعضاء الخمسة الدائمين (أي القوى النووية العظمى: الولايات المتحدة وروسيا والصين وبريطانيا وفرنسا)، عشرة أعضاء غير دائمين يمثلون، بالتناوب، مجموعة الدول النامية الأعضاء في الأمم المتحدة، لفرض حزمة جديدة من العقوبات الاقتصادية والعسكرية ضد إيران.
إنما هذه هي أول مرة يشـهد فيها الملف النووي الإيـراني تصعيداً بهذا المستوى.. بما في ذلك إعادة إطلاق الحرب النفسية وحرب الأجهزة المخابراتية، اللتين اقترنتا ببدء الطرق الخفيف على طبول الحرب، من خلال تكثيف التسريبات الصحافية حول التموضع الميداني والجاهزية القتالية لفرقاء التصعيد، وصولاً إلى الشروع الفعلي في إجراء المناورات العسكرية في المناطق المرشحة لأن تكون ميادين القتال الفعلية.
ولقد التقطت تركيا والبرازيل بسرعة مغزى ومخاطر هذا المنعطف الحاد والجديد في ملف المواجهة بين الغرب بقيادة الولايات المتحدة وإيران، فسارعتا لاحتواء الموقف عن طريق تتويج الجهود الدبلوماسية والسياسية التي بذلتها كل منهما باتجاه طهران في الشهور القليلة الماضية، باتفاق ثلاثي يلبي المطالب الغربية والمتمثل أساساً في تبادل الوقود النووي الإيراني منخفض التخصيب بآخر خارجي عالي التخصيب.
إلا أن الولايات المتحدة الأمريكية وعدد من الدول الأوروبية الحليفة لواشنطن رفضت هذا الاتفاق وسارت قدماً في مسعاها لفرض حزمة جديدة من العقوبات الاقتصادية والعسكرية والدبلوماسية ضد طهران من خلال استصدار قرار في مجلس الأمن الدولي بذلت واشنطن جهوداً سياسية وتحركت آلتها الدبلوماسية شرقاً وغرباً وجنوباً من أجل حشد التأييد المطلوب لهذا القرار. لقد ساء واشنطن أن يبرز لاعبون جدد مثابرون ينافسونها في ‘حرفتها’ المتمثلة في احتكار التحركات السياسية والدبلوماسية الدولية لبلورة وصياغة مواقف دولية من مختلف القضايا العالمية. وهي لذلك ‘شكرت’ على لسان رئيسها باراك أوباما الرئيس البرازيلي لويس أناسيو لولا داسيلفا ورئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان من نجحا في إنجاز الاتفاق الثلاثي سالف الذكر، إلا أنه رفض قبول الاتفاق الذي توصلا إليه مع طهران بدعوى أن إيران لم تتخل عن تخصيب اليورانيوم بنسبة 20٪. إنما الأمر المستجد واللافت في هذه الموجة الجديدة من تصعيد الملف، هو الخلاف الروسي الإيراني الذي خرج من الكواليس إلى العلن معبَّر عنه من الطرفين بتراشقات لاذعة بدأها الرئيس الإيراني أحمدي نجاح باتهامه روسيا بأنها اختارت الوقوف مع أعداء إيران نزولاً للمشيئة الأمريكية، فرد عليه في اليوم التالي مساعد نائب الرئيس الروسي بكلمات أقسى حين دعا إيران للتوقف عن الخطابات الدوغمائية.
تفسير ذلك، على ما نرى أن روسيا ليست أقل براغماتية من إيران، ومادام طريقها أصبح سالكاً باتجاه التعاون مع حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ومع واشنطن بعد تجديد اتفاقية ستارت لخفض الرؤوس النووية لدى الجانبين، فلابد لها أن تفاضل بين مصالحها لدى الجانبين الغربي والإيراني. وهذا ما أثار حنق طهران التي أرادت أن تعبر عن غضبها من الموقف الروسي المتحول بإجراءات قاسية مثل طرد شركة ‘روس نفط’ الروسية من إيران قبل حوالي شهر والتلميح إلى إمكانية قطع الروابط مع ‘غازبروم’، ما استدعى بدوره حنقاً روسياً وجد تعبيره في الموقف من حزمة العقوبات الجديدة.
وأما بشأن الأسباب التي أملت حدوث التصعيد الجديد في الملف النووي الإيراني فنعتقد أن مردها التالي:
– التوتر العاصف الذي أحدثته نتائج الانتخابات الإيرانية التي جرت قبل نحو عام بين الغرب والنظام الإيراني.
– تغيير المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية، حيث إن المدير العام الجديد الياباني يوكيا أمانو الذي خلف المدير العام السابق للوكالة محمد البرادعي في ديسمبر من العام الماضي، يتخذ موقفاً أكثر صرامة تجاه إيران فيما يتعلق بالشفافية والإفصاح.
– استنفار إسرائيل بجميع لوبياتها حول العالم لتكثيف الضغط على إيران وفرض عقوبات صارمة ضدها إذا لم يكن بإمكانها الحصول على دعم ومساندة واشنطن السياسية والعسكرية لمهاجمة المنشآت النووية الإيرانية.
– فشل محادثات مجموعة الخمسة+واحد (الولايات المتحدة، فرنسا، روسيا، بريطانيا، الصين + ألمانيا) مع إيران التي جرت آخر جولاتها في جنيف مؤخراً من أجل التوصل إلى اتفاق على مبادلة الوقود النووي الإيراني منخفض التخصيب بآخر عالي التخصيب.
الوطن 12 يونيو 2010