في بيت صغير بإسكان المحرق حضرنا ثلة صغيرة من رفاق محمد جابر الصباح، وكانت العتمة محيطة بنا، وثمة جهاز متوسط الحجم في الحوش، وحوله مجموعة من المصابيح غير المضاءة، وراح ذلك الجهاز يدور بسرعة بضع دقائق ثم قام بإشعال النور في تلك المصابيح المتعددة التي كانت تحيط به.هذا اختراع عَمِلَ عليه الأستاذ المناضل محمد جابر الصباح أكثر من ثلاثين سنة. أذكر وكنا فيما وراء الأسوار قبل عقود كيف كان (أبوجابر) يحدثنا عن اختراعه، وكيف سوف يسيطر على المد والجزر في البحر ويحوله إلى طاقة كهربائية بآلة صغيرة!كنا نعتبر ذلك تسلية من هذا الرجل المنغمس في النضال السياسي من أجل الحرية والديمقراطية، وان كلماته وخططه التنويرية لتعديل وتطوير الكهرباء مجرد لحظة عاطفية سرعان ما تخبو!وفيما بعد وفي لحظات العمل من أجل الديمقراطية وعودة البرلمان الذي كان عضواً سابقاً فيه، كان لايزال يتحدث عن مشروعه، وقد حوّله إلى مجموعة من الخرائط الهندسية التي لا نفقه لها نحن غير التقنيين معنى!وفي ذات الوقت كان يعمل لهندسة الضوء السياسي في بلدنا، فيرى أن المحولات المذهبية السياسية تجرنا إلى مشكلات ظلامية صعبة، وانه لا بديل عن الضوء الطبيعي ضوء الحداثة والعلمانية والديمقراطية، وإنه يجب عدم تمزيق الشعب.في تلك الغرف، في تلك الشقق الصغيرة، عبر تضاريس مدينة المحرق، وبين حشود تتدفق على مكانه، وبصبره العجيب، ظل يغزل بين النور السياسي وبين النور المائي الكهربائي، فهو مع جلسات الحوار الصغيرة النادرة في البلد لاكتشاف طريق عودة الديمقراطية، وبرفض المغامرات السياسية المكلفة، ثم إلى العمل على اختراعه الذي لا يكاد أحد في البرية الواسعة أن يمد له يد العون والمساعدة.لا شك أن العمل النضالي الصبور البطيء الحقيقي – وسواء في العلم أم في السياسة- هو أمر صعب ومكلفٌ، فهو يأكل الشباب والصحة والمدخرات القليلة، وقد اختار محمد جابر الصباح أن يعمل في الاثنين المضنيين.وفي السياسة تشكلت معه قوى صغيرة لكن صلبة باقية تنامت على مدى السنين مصرة على الحداثتين الديمقراطية والوطنية، ثم راحت تؤكد نفسها حين انعطف البلد نحو التغييرات السياسية بأشكال ظلت غير مناسبة وتحتاج إلى تعديلات عميقة، وإلى إضاءات سياسية قوية وربما (فلشات) حارقة.إن الإنجازَ العلمي التقني هو أصعب ولا شك لأنه لا يوجد أحد قادر على فهم هذه المعادلات المركبة وتليين الحديد وجمعه مع الأسلاك الكهربائية والماء، ومحمد الذي رأيناه رجلاً بكامل صحته وعنفوانهِ وهو يتابع الورق ثم يشكل الجسم المعدني لآلته بجوانبها الخفية عنا والمجهولة لنا، ويؤكد حركتَها من كمية مياه، فيحول السائل إلى طاقة حركية في هذا الجسم المعدني، رأيناه بعد سنوات عديدة عسيرة وهو كهل يمشي بكرسي متحرك، منتقلاً من الصالةِ للحوش، ويضع السماعة ليسمع الأصوات، ويجمع تلك الثلة الصغيرة ليريها تتويج عمله عبر تلك السنين المضنية الطويلة!الآلة تدور بقوة وتحول قطرات المياه إلى ضوء باهر في تلك المجموعة المعلقة قربها.إن العقل البحريني العلمي هنا يتشكلُ ويتجسدُ عبر التجربة، فانظر إلى التجربةِ في الضوء كم تكلف وكم تطور! وانظر إلى التجربة في الظلام كم تكسب وكم تدمر!يلقي علينا محمد جابر محاضرة مختصرة عن الاختراع، بمصطلحات تقنية علمية غير مفهومة لنا تماماً، تدور حول تحويل طاقة كامنة في الماء، وفي حركتي المد والجزر، إلى طاقة مختلفة تجري في الآلة بصورة سريعة جداً عبر قوة الكهرباء المحدودة، فيحدث تسريع من نوع خاص، له تصميمه المحدد في جسم الآلة، ويتم تحويل تلك الطاقة المائية إلى طاقة ضوئية، ويمكن تحويلها إلى طاقات مختلفة، عبر تصميمات متعددة.وفي ظني ان ثمة إنجازات أكبر من الممكن أن تتشكلَ من هذه الآلة، وتغدو ثورة تقنية تدخل في جوانب عديدة.ونظراً لمستوياتنا التقنية الوطنية المحدودة، وقراءاتنا المبسطة للاختراعات، فنرجو من المختصين دراسة هذا الاختراع، ونتمنى على الجهات المعنية أن تتعاون مع هؤلاء المختصين في دراسته وإعطاء براءة اختراع للأستاذ محمد جابر الصباح على إنجازه العلمي التقني هذا.فمسألة تطويره وتحويله إلى اختراع واسع النطاق هي مسألة تحتاج إلى تذليل البيروقراطيات ومشكلات التخلف الكثيرة، لكن لينصب جهدنا فقط الآن على تحليلِ وتصديق هذا الاختراع وإعطاء شهادة لصاحبه بأنه أنجز شيئاً بعد رحلة استمرت أكثر من ثلاثة عقود.ان المحرق لا تحرق بل تضيء وتنشر طاقة كهربائية رخيصةً غير ملوثة ولها آفاق عريضة في مجالات النور والحركة الآلية كافة.
صحيفة اخبار الخليج
9 يونيو 2010