بعد أن أقدم الكيان الصهيوني على ارتكاب مجزرته الأخيرة بحق نشطاء الحرية في المياه الدولية بهجومه على أسطول الحرية والذي راح ضحيته تسعة من نشطاء السلام الأتراك العزّل بالإضافة إلى العشرات من الجرحى، بات واضحا مدى الارتباك والتخبط الذي اتسم به موقف حكومة العدو الصهيوني، مما حدا بقيادات بارزة لديه بالإضافة الى وسائل إعلامه التي حمّل معظمها رئيس الوزراء الصهيوني ووزير دفاعه مسؤولية اتخاذ قرار الهجوم على سفينة “مافي مرمرة” التركية التي كانت متجهة الى حدود غزة، في حين تؤكد كافة الدلائل على عزلة واضحة لحكومة العدو حيث تتوالى دعوات الشجب والإدانة من مختلف دول العالم والتي قام بعضها باستدعاء سفراء الكيان. ونتيجة للهجوم الصهيوني استعادت قضية حصار غزة موقعها نحو الصدارة، بعد أن أوشك الإعلام العالمي على نسيانها. وبعيدا عن خطاب الشجب والتنديد الراهن، فان الحقيقة تبقى ماثلة، أن العدوان على أسطول الحرية قد أكد مجددا على عدوانية هذا الكيان وضربه لكل الأعراف الدولية عرض الحائط، ولم يسعفه في ذلك حتى الخطاب المهادن والمتواطئ من قبل الإدارة الأميركية وبعض الدول الأوروبية، والذي دفع جو بايدن نائب الرئيس الأميركي لوصف التصرف الصهيوني بأنه طبيعي ومشروع!
نعتقد أن عاطفية الخطاب العربي المفرطة المعتادة لن تؤسس أبداً لنهج مغاير في التعاطي مع قضيتنا المركزية، بل إنها وفي أحسن الأحوال تستطيع أن تؤصل لخطاب موغل في المزايدة من دون مضامين حقيقية، وهي نوع من الهروب إلى الأمام ليس إلا! خاصة بعد أن أبقت الكثير من الأنظمة العربية القضية الفلسطينية شأنا ثانويا بكل أسف، مستفيدة من حالة الانقسام الفلسطيني، والذي يبدو انه سيستمر حتى مع حجم التداعيات الجارية بعد حادث الاعتداء على أسطول الحرية، وبعد الرسائل السلبية المتبادلة بين طرفي الصراع في غزة والضفة الغربية، ومحاولتهما اللعب على الوقت ولو بأوراق أضحت مستهلكة كثيرا، وذلك ما سيقدم لو استمر اكبر خدمة للكيان الصهيوني لاستثمار الظرف الفلسطيني المنقسم، والدولي المتهيب والمتردد، خاصة وان حكومة الكيان أصبحت تعول كثيرا على عامل الزمن والتقادم حتى يتم نسيان ما قام به من جرائم كما نجح في ذلك مرارا من قبل، ليكون ممكنا بعدها إصلاح صورته التي اهتزت بقوة على المستوى الدولي، التي حاول قادة الكيان ترويجها حتى إبان فترة الأزمة على ان اسرائيل واحة الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان التي تحاصرها مجموعة من الأنظمة والشعوب المارقة والإرهابية!!
كل المؤشرات على الساحة الدولية تشير إلى أن صلف الحكومة الصهيونية وإرهابها قد أفرز وضعا مواتيا يمكن للقوى الفلسطينية المتنازعة منذ سنوات لو فطنت أن تلتقطه لتبني عليه وتستثمره إيجابا لصالح القضية الفلسطينية، خاصة في ظل الأزمات المتلاحقة التي يعيشها النظام الدولي برمته، ومن بين تلك المؤشرات ما ذهب إليه قائد القوات الأميركية “باتريوس” حين قال “نحن ندفع من دماء جنودنا للذود عن مصالح إسرائيل التي تحولت بالنسبة لنا إلى عبء” وهو ما يتسق مع ما قالته علنا بعض الصحف الصهيونية، وما قاله رئيس الموساد ذاته من أن إسرائيل تتحول إلى عبء على الولايات المتحدة. وما قاله “بينيامين بن اليعازر” الوزير في حكومة العدو خلال أحد اجتماعات المجلس الوزاري المصغر من أن وضع إسرائيل الدولي أصبح كارثياً.
لذلك نقول لو فطنت القوى المعنية على الساحة الفلسطينية للتعامل بصورة استراتيجية وبعد نظر بعيدا عن حالات الخلاف المستمرة منذ سنوات، وذلك من أجل استثمار هكذا وضع دولي وإقليمي، طبعا دون التوقف كثيرا أمام تفاصيل ومتاهات الدور العربي المغرم ببيانات الشجب والتنديد، ولكن دون إهماله، فان من شأن ذلك أن يدفع بالقوى التي مازالت مواقفها إما خجولة أو متمنّعة أن تتعامل إيجابا مع أي وضع إيجابي دولي ربما برز لاحقا تجاه القضية الفلسطينية وليس حصار غزة فقط، بالضبط كما هو الحال مع الموقف التركي تحديدا والموقف اليوناني والأوروبي بشكل عام، وهنا بالضبط يصبح عامل الوقت وسرعة أو بطء حركة الجانب الفلسطيني والعربي أيضا، عاملا حاسما في تضييق الخناق على حكومة الكيان لتحقيق أقصى قدر من المكاسب الممكنة للفلسطينيين، فهناك اليوم أكثر من لاعب إقليمي ودولي يمكن التعويل عليه إلى حد معقول بالنسبة لمواقفهم وفي المقدمة منهم الموقف التركي الباحث عن دور أكبر في رسم خارطة المنطقة، والإيراني المتحفز، والأوروبي الذي يمكن أن يكون متطورا ومستجيبا مع قضايا كقضايا حقوق الإنسان والحاجة لخلق حالة استقرار إقليمي ودولي أصبحت مطلوبة بشدة حتى يمكنه التفرغ لبقية قضاياه المعقدة الأخرى المرهقة.
عامل الوقت مهم للغاية، وقد أصبح مع الفلسطينيين وضدهم في آن، فهل ستدلل القيادات الفلسطينية على فهم أكبر لما يمكنها استثماره والانطلاق منه بعيدا عن أوهام السلام المزعوم، أم ستسمح مجددا لحكومة الكيان الصهيوني أن تستعيد زمام المبادرة؟!
صحيفة الايام
9 يونيو 2010