في ضوء تحليل الموقف التركي الغاضب من الاعتداء الوحشي الاسرائيلي على احدى سفن “أسطول الحرية”، الذي راح ضحيته تسعة من الشهداء الاتراك المدنيين المسالمين المتضامنين مع الشعب الفلسطيني المحاصر في غزة، علاوة على عدد من الجرحى والمصابين، وهو الموقف الذي استعرضنا دلالاته وأبعاده يوم أمس يمكننا هنا استعراض جملة من الدروس والدلالات والعبر المتعددة التي يتعين على العرب التمعن فيها جيدا والاستفادة منها:أولا: ان حزب “العدالة والتنمية” الاسلامي الذي يحكم تركيا أعطى قدوة ومثالا نموذجيا لقوى وحركات الاسلام السياسي العربي في فن اللعبة السياسية بشروطها الديمقراطية الملموسة المحددة، فهو لم يشغل نفسه آنيا بعدة قضايا دينية ليفتح حولها جبهات متعددة كما تفعل قوى الاسلام السياسية العربية الآن داخل البرلمانات وعلى الساحة السياسية عامة، بل ركز في القضايا المصيرية الاكثر إلحاحا كتلك المتصلة بحياة الاتراك الاقتصادية والمعيشية داخليا، وفي كيفية اعادة رسم دور جديد لتركيا على الساحة الاقليمية كقوة ند للغرب بما في ذلك اعادة الاعتبار لكرامة شعبها المسلم الذي أجبر على خذلان قضية المسلمين والعرب الاولى القضية الفلسطينية.وبهذه المعاني والدلالات التي قدمها حزب العدالة التركي فإنه لا يليق بقوى الاسلام السياسي العربي التباهي بانجازات هذا الحزب الا اذا اقتدت بسياساته.. لنتذكر هنا ان علم تركيا الذي رفعته قوى الاسلام السياسي العربية في مظاهراتها انما هو علم الدولة العلمانية التي بفضل ديمقراطيتها ــ على عيوبها ــ وصل حزب اسلامي الى السلطة، والاهم من ذلك أبدى قسمه لاحترام نظام الدولة، ومازال أمينا في احترامه لهذا القسم، ولم يتسرع حتى وهو في السلطة نحو القيام بإجراءات دينية متشددة تضر باقتصاد بلاده أو تعرض شعبه لصراعات أهلية خطيرة داخل الدولة والمجتمع.ثانيا: ان الحشد الاممي المتنوع المتعدد الثقافات والانتماءات (من 40 دولة) الذي استقل سفن “اسطول الحرية” التي امتزجت على بعضها دماء عدد من المصابين من ذوي الانتماءات غير الاسلامية مع دماء الشهداء والمصابين الاتراك والمسلمين هو درس بليغ يثبت بامتياز ان عدالة أي قضية انسانية أو وطنية لا تقتصر على اتباع دين محدد لنصرتها، وانه من الاهمية بمكان مد جسور التواصل وتعزيزها مع ذوي الانتماءات الدينية والفكرية المختلفة وضرورة الخروج من القوقعة الدينية الضيقة الافق التي لا ترى في الغرب بمجمله سوى الكفر والإلحاد والانحلال أو “الصليبية” على نحو ما دأب عليه نهج “القاعدة” وعدد كبير من المنظمات الاسلامية المتطرفة بتقسيم العالم الى فسطاطين لا ثالث لهما.وهنا فإن من يؤمن حقا بإقرار واطلاق مبدأ التعددية الثقافية ومنافعها في الانطلاق منها نحو بناء القواسم المشتركة في القضايا الانسانية العالمية لا مصداقية له اذا ما حصرها في النطاق العالمي تبعا للقضايا الآنية، كما حصل لأسطول الحرية في الوقت الذي يحاربها على الصعيد الداخلي، فمن يحارب التعددية داخل بلاده لا يمكن ان يكون ذا مصداقية في احترامه واقراره بمنفعية التعددية الثقافية أمميا على الصعيد العالمي.لنتذكر هنا كيف ان “حزب الله” احتكر قضية المقاومة في الجنوب اللبناني باصراره العنيد على رفض مشاركة أي قوى وطنية أخرى له فيها الا تحت لوائه، وأصر على نعت هذه المقاومة بـ “المقاومة الاسلامية” رغم انها قضية وطنية عامة تهم كل اللبنانيين على اختلاف انتماءاتهم الدينية والسياسية.ثالثا: أعطت مشاركة رموز من الاسلام السياسي السني في أسطول الحرية التضامني بعدا جهاديا عقلانيا جديدا بامكانه أن يحظى بشعبية عربية واسلامية وعالمية على نقيض خيار الاعمال الارهابية التي تتبناها منظمات متطرفة في افغانستان والعراق وعلى رأسها “القاعدة”، وهي الاعمال التي تسيء إلى الإسلام والعرب.رابعا: رغم أحداث “أسطول الحرية” الدامية التي شاركت فيها وضحت رموز انسانية غير عربية فإن ذلك لم يحل دون استمرار الصراع بين “حماس” و”فتح” على السلطة، واذا كان هذا التضامن الأممي العالمي مع الشعب الفلسطيني في ظل أسوأ انقسام فلسطيني وفي ظل أسوأ انقسام عربي رسميا وشعبيا فلنا ان نتخيل حجم واثر هذا التضامن العالمي لو كان الفلسطينيون والعرب يتحلون ولو بحدود دنيا من وحدة الصف. خامسا: بدت تركيا وحزبها الاسلامي الحاكم برفعهما العلم الفلسطيني أكثر احتراما للهوية الوطنية الفلسطينية من “حماس” الفلسطينية وعدد من الحركات الدينية الفلسطينية والعربية الاخرى التي مازالت تصر في مناسباتها الدينية والوطنية وفي مسيرات جنائز شهدائها على تسييد العلم الحزبي على العلم الوطني بما في ذلك لف الجنائز، أو جثامين الشهداء.سادسا: مازالت القوى السياسية البحرينية تعطي في تضامنها مع القضية الفلسطينية أسوأ أشكال التضامن مدعاة للتقزز في تفرقها وانقساماتها حتى في قضية العرب والمسلمين المقدسة المشتركة على قاعدة أو كأن لسان حال أصحابها “لكم مسيرتكم، ولنا مسيرتنا”، وما كان ينبغي مهما تكن الاسباب والرواسب المثقلة ان يقتصر الترحيب بالبحرينيين النشطاء الأربعة العائدين من أسطول الحرية على قوى شق من اسلامنا السياسي من دون مشاركة قوى الشق الآخر.
صحيفة اخبار الخليج
8 يونيو 2010