كتبت هذا المقال في بيروت، عندما اختتمت الندوة السنوية للعام 2010 التي عقدتها المنظمة العربية لمكافحة الفساد تحت عنوان «الإعلام ومسيرة الإصلاح في الأقطار العربية».
كم أكبر الجميع مشاركة دولة رئيس الوزراء اللبناني الأسبق ورئيس مجلس أمناء المنظمة الدكتور سليم الحص عندما ألقى كلمته المعبرة، ثم رأس الجلسة الأولى الافتتاحية وهو عائد للتوّ من رحلة علاجية في الخارج.
أبدى دولة الرئيس انتباهاً شديداً لما كان يقال وآراءً سديدة فيما قال. كما أبدى من وراء المنصة ثباتاً في مكانه وتماسكاً في جلسته. لكنه للأسف لم يبدُ كذلك أثناء مغادرته القاعة. فقد مشى بصعوبة بمساعدة مرافقيه ومحاطاً بمحبة واحترام جميع المشاركين في الندوة.
ورقة الدكتور عزمي بشارة التي قدمت في الجلسة الافتتاحية كانت الأساسية، وعلى قاعدتها جرت مختلف النقاشات.
تلت الجلسة الافتتاحية ثلاث جلسات ناقش كل منها محوراً خاصاً: «مصداقية الإعلام العربي المدخل الأساسي لتفعيل أداته»، «الإعلام العربي بين مطرقة السلطة وسندان المال السياسي» و»الإعلام العربي وصناعة الرأي العام: الدور المفقود». وسيتناول مقالي هنا المحور الثاني.
عندما وضع هذا المحور السلطة والمال السياسي كطرفي معادلة غاب فيه وفي معظم المناقشات حوله الفرق بين السلطة كذات سياسية والمال كأداة سياسية. والواقع أن المال السياسي أداة يولدها المال التابع لثلاث ذوات رئيسية هي الدولة (المال العام)، الشركات الكبيرة (المال الخاص، المتحقق أساساً عن طريق الإنفاق العام من قبل الدولة وبسبب غياب الضرائب المباشرة على دخول الشركات الكبرى). وأخيراً القوى الرجعية في المجتمع، ومن بينها بعض المنظمات المتلبسة بالدين، وباسمه تتكدس لديها موارد مالية هائلة أو تلك التي أسست تحت أهداف «اجتماعية عامة» (ولنصف هذا المال بالمال الاجتماعي الموظف سياسياً). وهذا الأخير ينبع في الأساس مما يجود به المال العام والخاص.
في بلدان الخليج العربي يبدو المال السياسي بمصادره الثلاث أقوى كَمّاً وأشد فعلاً مما هو عليه في البلدان العربية الأخرى، بل إنه يمتد بأثره السلبي إلى هذه البلدان أيضاً. ذلك أن الذوات الثلاث جميعها في هذه البلدان صاحبة العوائد النفطية تسبح فيما يعرف «بالفوائض» المالية الكبيرة. وهي تسمى بـ «الفوائض» ليس لأنها زائدة عن حاجات التنمية في هذه البلدان أو البلدان العربية الشقيقة الأخرى، بل لأن البنى الاقتصادية لهذه البلدان بوضعها الحالي لا تستطيع «هضم» هذه الأموال التي ينصب القسم الأكبر منها في قطاعات اقتصادية غير إنتاجية، لكنها سريعة الدوران، وتدرّ أموالاً سائلة في أيدي الذوات السياسية. ومن بين هذا المال تخصص السلطة والشركات الكبرى وقوى النفوذ الرجعية في المجتمع قسماً كبيراً من أموالها كمال سياسي تسخّره لخدمة مصالحها وتعميق نفوذها عن طريق إفساد ما أمكن من مكونات الحياة السياسية وصناعة الرأي العام، وخصوصاً الإعلام.
وهكذا فإننا أمام أثر تدميري كبير ومتعدد الجوانب تحدثه «الفوائض» المالية على بنية الاقتصاد وتركيبة المجتمع وهويته وعلى مكونات بنيته الفوقية، وفي مقدمتها الثقافة والإعلام إلى جانب السياسة. ومع تردي الأوضاع بسبب الأزمة المالية والاقتصادية العالمية وانعكاساتها المحلية يحدث بالنسبة للإعلام ما يحدث في المجتمع بالضبط. أي أن من يدفع ثمن الأزمة ليست القوى الاجتماعية المتسببة في نشوبها، بل من لم يتسبب. أي أن الصحافة التي تنهار وتسقط ليست تلك المرتبطة بالدولة وعالم المال والشركات الكبرى وقوى النفوذ الطائفي الديني والقبلي وغيره وتتمتع بدعمها، بل تلك التي تسعى للتعبير بصدق عن آلام وآمال المجتمع وقواه الأضعف. وتنقلب مقولة «البقاء للأصلح» في كثير من حالات الإعلام إلى «البقاء للأفسد».
وبالمآل الذي آلت إليه جسدت صحيفة «الوقت» البحرينية هذا الوضع تماماً.
لقد سطرت «الوقت» صفحات ناصعة في تاريخ الصحافة البحرينية. وظلت تجتذب المزيد من القراء وخيرة الكتاب. وكلما فعلت ذلك كلما تقطعت حبائل المدد المالي.
وفي صباح الثالث من مايو/ أيار 2010م، وربما بمناسبة يوم الصحافة العالمي خرجت «الوقت» تنعى نفسها: «أيها القراء… شكراً ووداعاً». الجميع أبدى أسفه، لكن أحداً لم يبدِ مساعدته. وكان طبيعياً ألا يمدّ المال السياسي حبل الإنقاذ وهو الذي مدّ «للوقت» حبل المشنقة بسبب حجب الإعلان وكل أشكال الدعم الأخرى.
الدرس: لا يمكن إصلاح الإعلام على أرضية اقتصادية وسياسية فاسدة، لكن رسالة الإعلاميين الحقيقيين هي محاولة الإسهام في إصلاح الاقتصاد والسياسة.
صحيفة الوسط
7 يونيو 2010