عَبَرَ هاشمي رفسنجاني عن مجموعةٍ من الازدواجيات الاجتماعية والفكرية والسياسية، كحالِ البرجوازيةِ الصغيرة الصاعدةِ لتكونَ برجوازيةً كبيرة، مرتكزةً إلى المُلكيةِ الخاصة والدينِ والسلطةِ، ففي ذلك الغبش الريفي البعيد عن العاصمةِ في الزمان والمكان، وعَبْرَ مزارعِ الفستق والقمح وعَبْرَ عملِ الفلاحين المستأجرين لعبَ الوعي الديني دورَهُ في صعودِ المجموعات السياسية اللابسة لباس المذهب العريق في أدوارهِ الاجتماعيةِ والفكريةِ والسياسية. إن عملَ الفلاحين الفقراء أتاحَ لهذه الفئاتِ الصغيرة الميسورة نسبياً إمكانيات التخصص السياسي والصعود على سلم القيادة.وجسد رفسنجاني بخصائصهِ تناقضاتِ هذه البنية الاجتماعية التي تجعلُ الفلاحينَ البسطاءَ يبقون في عالمهم التابع والمساند لهذه الفئات الصاعدة، عبر المذهب المشترك وعبر مضامين هذا المذهب الناقدة للطغيان والاستئثار بمقدراتِ الأمة، لكن مع بقاء هؤلاء الفلاحين في أوضاعهم الصعبة وإرثهم الديني.وتتضحُ بقوة مسألةُ عيشِ الفلاحين كقضية جوهرية في خضم الصراع السياسي الدائر بين القوى السياسية والدولة في إيران خاصة وعموم دول الشرق في هذا البرزخ التحولي من الإقطاع إلى الحداثة.في البدء لاحظنا هزيمةَ وتراجعَ الفئات الليبرالية التي قامت بنضالها على بعض تجار المدن وبعض المثقفين، نظراً لهشاشة هذه الفئات وضعفها الصناعي وعيشها بين بحر الفلاحين وتجار البازار. فجاءت معركة مصدق وهزيمة الجبهة الوطنية لتبين محدودية هذه القوى في التصدي لدولة كبيرة وقوة أجنبية.ومن هذا الفراغ السياسي بدأ تحريك المذهب سياسياً بشكل جديد، لكونه يرتبط بملايين الفلاحين وكان أداة الحراك السياسي عبر قرون، فيستطيع عبر مؤسساته العبادية جذبهم إلى دائرة الصراع السياسي، ولكن هذه العملية التسريعية المتخلفة تعيدُ الصراعَ الوطني إلى الوراء، ففي حين تتطلع الدولةُ المَلكيةُ إلى الحداثة تقوم المجموعاتُ الدينيةُ بطرحِ نموذج الماضي وتستلُ منه أهدافاً سياسية، عبر الممارسات العبادية المرتبطة بقرون سابقة، مما يؤدي إلى تناقض عميق مستقبلي.وبسبب حماقة الدولة المَلكية ومحاولة فرضها التحديث من فوق واستغلالها المواردَ للبذخ ولتضخيم الجيش وشراء السلاح وبعض المشروعات الصناعية المفيدة، فإنها غدت هدفاً سهلاً للهجوم الديني السياسي.لم يكن الدينيون يتطلعون إلا إلى الاستيلاء على السلطة، فكان الصراع يجري للهيمنة على الحكم، ومنع مشروع الدولة التحديثية من البروز والتوسع، وهو الذي نما من خلال تلك القيادة المَلكية الإقصائية للروحانيين.ومع غيابِ آية الله العظمي البروجردي وهو الحلُ الوسط بين الطرفين، توسع وتعمق التناقضُ بين الدينيين والشاه.كان حدث (الثورة البيضاء) يوضح رؤيتي الشاه والدينيين تجاه الأغلبية الشعبية، أو قلْ رؤية كلٌ من الإقطاعِ السياسي والإقطاعِ الديني تجاه الفلاحين؛ منتجي الأرض وأغلبية الناس. فالشاه زعم أنه سينقذهم من الفقر والإقطاع لكنه لم يفعل ذلك، واستفاد الموظفون والتجار الكبار من توزيع بعض الأراضي، رغم بعض التحولات المفيدة التي جرت في الريف، لكن توسع العمليات الرأسمالية من قبل هؤلاء الكبار على مدى عقود قاد إلى فيضٍ سكاني معدم من القرى نحو المدن، مع عدم تطور الزراعة وجمودها.هنا كان هاشمي رفسنجاني يحاور الخميني عن الموقف الصائب الذي يجب اتخاذه وهو يشير – أي رفسنجاني- بأن (الإصلاحات) يمكن الاستفادة منها بحسه العملي الشعبي. لكن الخميني في مشروعهِ المناقض على طول الخط للسلطة رأى (نفاق) هذا الإصلاح وعدم جديته، وإنه مثل باقي عملية التحديث سيؤدي إلى فساد المجتمع والنساء وإضعاف الدين، وإنه بالتالي يجب الوقوف ضد توزيع الأراضي على الفقراء! وأصر على أن أي مشروع تطرحه الدولة عبر هذه الرؤية يجب الوقوف ضده، وتحريك المجموعات الدينية لنقده، وتحريك الشعب بالتالي لهدم النظام، وهذه الفكرة أخذت نمواً مرحلياً.هنا تتشكلُ إيديولوجيةٌ دكتاتوريةٌ مضادةٌ لنظامٍ دكتاتوري، وتُبرز في الدعاية السياسية جميع الجزئيات غير المقبولة دينياً لتصعيدِ الصراع، مثل مشروع القَسم الذي تُلغى منه الكلمات الدينية، ومثل اتفاقية العلاقة مع الجيش الأمريكي، أو عمليات تحديث قوانين الأسرة الخ. لكن الغريب هو الوقوف ضد عمليات توزيع الأراضي على الفلاحين وتعديل أوضاع الفقراء في القرى فكيف يقوم رجال الدين بالوقوف ضدها؟ وهو جعل رفسنجاني حائراً لفترة. لكنهم برروا ذلك بأنه خدعة سياسية، لكنهم في أعماقهم كانوا لا يريدون تغيير أحوال الفلاحين وتحويل الملكية الخاصة الاستغلالية، كما أن المهم لديهم هو تأجيج الصراع ضد النظام!إن عمليات تطوير الفقه والنضال لتغيير وضع الفلاحين والنساء وحرية العقول مرتبطة ببعضها البعض، فإن تجميدَ الفقه والقفزة السياسية فوق ظهور الجماهير كلتيهما شمولية على المستويين، في حين أن تجاوب الفقه مع تغيير أحوال حريات الفقراء والنساء والفكر يقود إلى ديمقراطية متدرجة عقلانية.شارك رفسنجاني بقوة في حدث 15 خرداد(5 يونيو 1963) الذي قفز على التطور الفقهي الإصلاحي المتدرج وأدخلَ قسماً من الروحانيين في عمليات الصراع السياسي الكبرى أي المواجهة الشاملة ضد النظام، وقد عرضه ذلك للاعتقال مراراً، بل للتعذيب الشرس القاسي، وهو لا يزالُ يوسعُ علاقاتهِ بالقادةِ الذين يظهرون في معمعان الصراع هذا، سواءً على المستوى الوطني أو العربي الإسلامي.وكما أنه وظفَ الحسينيات للدعاية السياسية فقد استفاد منها مادياً، وتنامى عمله التجاري كثيراً مع صلاته الاجتماعية والسياسية الواسعة، فيخبرنا في كتابه(حياتي) – دار الساقي ط1 2005 بحيازته أموالاً كثيرة مخصصة للنشاط السياسي وقد ضاع بعضها بسبب مشكلات سياسية وقضائية وتوزع بعضها بين كوادر الحركة السياسية، مثلما تنامى ماله الخاص، واستطاع أن يوازن بين تضحياته وثرائه المتصاعد المعتمد على مشروعاته الذكية.لقد اكتسبَ هاشمي خبرةً واسعةً وصلابةً قوية في النضال عبر رؤيته للمجموعات السياسية وأطروحاتها وتشكيل جماعته المتنامية، ومعرفة خبايا الحكم، وتغلغلَ في الأسواق وفهمَ الاقتصاد واحتك بجميع فئات الشعب، وكانت كل هذه الممارسة زاده لكي يكون رئيساً مؤثراً في حقبة سياسية طويلة قادمة.
صحيفة الايام
6 يونيو 2010