قطاع غزة، كما هو معروف، محاصر منذ يونيو ,2007 براً وبحراً وجواً، حيث تسد إسرائيل كافة منافذ القطاع الحدودية معها، فيما تحكم مصر سيطرتها على المنفذ الآخر للقطاع على العالم وهو منفذ رفح الحدودي مع مصر.
ويشمل الحصار الإسرائيلي على القطاع منع وتقنين دخول المحروقات والكهرباء والسلع ومواد البناء ومنع الصيد في عرض البحر. علماً بأن إسرائيل قامت عدة مرات، آخرها قبل حوالي أسبوع، بقصف مطار غزة الدولي الذي هو المطار الوحيد في القطاع، رغم أن مبنى ومدرج المطار مدمران بالكامل بواسطة الطائرات الحربية الإسرائيلية.
السؤال الآن: كيف قُيِّض لإسرائيل أن تنجح في فرض هذا الحصار الإجرامي طوال هذه المدة من دون أن تلقى أية إدانة دولية جادة ترقى إلى مستوى الجريمة ضد الإنسانية، من حيث تحويلها مدينة غزة إلى سجن محكم الإغلاق تتحكم في منافذ الدخول والخروج منه؟.
إنها نجحت في ذلك بفضل التواطؤ الغربي والسكوت الإقليمي على جريمتها. ولمَّا لم تتعرض لأية ضغوط تدفعها لفك هذا الحصار فما الذي يجبرها على فعل ذلك!
ولكن مهندسي جريمة الحصار ومنفذيها الصهاينة والمتواطئين معهم إذا كانوا قد ضمنوا مواقف الحكومات في الغرب وفي الشرق فإنهم لم يتنبهوا على ما بدا حتى الآن، لما يمكن أن تؤول إليه حالة النهوض السلمي والإنساني الكوكبي لحركات وتحركات منظمات المجتمع المدني عبر العالم والتي أثبتت بانتفاضتها الإنسانية ضد جريمة الحصار الجماعي، أن الإنسانية لم تمت وأن ضميرها مازال ينبض بالحياة وبقوة لم يتوقعها المجرمون الوالغون في دماء ومعاناة وآلام ضحاياهم المحاصرين داخل السجن الرهيب.
ولذا فإن الوضع المزري تحديداً الذي وضع المحتل الإسرائيلي سكان القطاع فيه هو الذي حرَّك ضمير منسق الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة ماكسويل غيلارد ودفعه لنعت هذا الحصار الإجرامي بأنه ‘اعتداء على الكرامة الإنسانية’.
وكانت منظمات المجتمع المدني ومنظمات الإغاثة الإنسانية في أوروبا وأمريكا والشرق الأوسط قد بدأت في اتخاذ إجراءات عملية لكسر هذا الحصار اللاإنساني من خلال تنظيم قوافل إغاثة إنسانية إلى قطاع غزة المحاصر. وقد نجحت هذه الحملات سواء في توصيل المساعدات الإنسانية إلى سكان القطاع المحاصرين أو توصيل الرسالة الإنسانية التي تستصرخ الضمير العالمي بتسليطها الأضواء على هذه المأساة الإنسانية العظيمة.
الأهم من كل هذا أن نشطاء حملات التضامن مع سكان القطاع المحاصرين قد نجحت في تحويل طبيعة المواجهة من مواجهة إسرائيلية فلسطينية (غزاوية إن شئتم) إلى مواجهة إسرائيلية دولية، بعد أن نجح منظمو حملات كسر الحصار في خلق أوسع تمثيل دولي منخرط كلياً في أنشطة الحملة، فضلاً عن زيادة أعداد المشاركين في قوافل نقل المساعدات إلى القطاع المحاصر وكسر الحصار المفروض عليها.
الأمر هذه المرة اختلف بعض الشيء، فلقد اختارت تركيا أن تتصدر المشهد هذه المرة وأن تكون مركز الثقل الرئيسي في حملة التضامن العالمية مع المحاصرين داخل قطاع غزة. فكانت المشاركة في غالبيتها تركية، وكانت الموانئ اللوجستية لانطلاق أسطول قافلة الإغاثة التي سميت بقافلة الحرية، موانئ تركية، وكانت أكبر السفن التي استوعبت ونقلت المشاركين في حملة التضامن الدولية، سفينة تركية (مرمرة). وكانت المنظمات الإغاثية التركية في مقدمة منظمات الإغاثة المنظمة للرحلة.
هي إذاً رسالة تركية بالغة القوة والتحدي للصلف والغرور والعنجهية الإسرائيلية. لقد أراد رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان أن يمرغ إسرائيل أخلاقياً في الوحل. فهو يدرك، كسياسي يتمتع بدهاء واضح، أن إسرائيل لن تحتمل هذا العرض الإنساني الدولي لقوة التضامن الذي تم حشده من حوالي 42 بلداً والذي حُرِص خلاله على أن يشمل نشطاء من ذوي ثقل واعتبار سياسي ونيابي وأكاديمي عال.. وأنها سوف تستخدم القوة الباطشة، على جري عادتها، للهجوم على السفن التي أقلت الناشطين الدوليين، الأمر الذي سيجعلها عاريةً تماماً أمام الرأي العام العالمي الذي أصبح الوصول إليه أسهل من عبور الشارع في الناحية المقابلة.
وهذا ما حدث بالفعل، فلقد نفذ الإسرائيليون تهديداتهم بالهجوم على سفن الإغاثة الإنسانية المتجهة إلى غزة واقتيادها إلى ميناء أشدود، حيث حوّل الجيش الإسرائيلي المكان الذي كانت تبحر فيه سفن أسطول الحرية، وهو مكان يبعد كثيراً عن المياه الإقليمية الإسرائيلية (على بعد حوالي 60 كيلومتراً من الشواطئ الإسرائيلية بينما تبلغ مسافة المياه الإقليمية حسب القانون الدولي حوالي 15 كيلومتراً أو 12 ميلاً بحرياً) حولته في ساعات الصباح الأولى من يوم الاثنين 31 مايو إلى ميدان معركة حقيقية استخدمت فيه إسرائيل الطائرات العمودية والسفن الحربية والزوارق الحربية السريعة وقوات الكوماندوز، لترتكب بذلك مجزرة بشرية جديدة تضاف إلى سجل مجازرها الحافل، حيث ذهب ضحية هذا الهجوم الهمجي على الناشطين المدنيين العزل تسعة قتلى وعشرات الجرحى قبل أن تقتاد السفن المختطفة في أعالي البحار على طريقة القراصنة، إلى ميناء أشدود وتودع المشاركين سجونها.
ربما يكون القادة الإسرائيليون الذين لم تنقطع اجتماعاتهم المافيوية منذ الإعلان عن تدشين حملة التضامن الجديدة لبحث الطريقة الإجرامية المناسبة للتصدي لحملة التضامن الدولية الرامية كسر الحصار المفروض على غزة، ربما يكونون أرادوا من استخدام هذه الوحشية ضد المشاركين في الحملة، رد الرسالة إلى الأتراك ومن خلالها إلى كل الجهات والمنظمات الإنسانية الدولية الناشطة في مجال الدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني المحاصر في غزة، بأن مصير نشطائها إن فكروا ثانية في تكرار المحاولة لن يكون بأفضل من المصير الذي انتهى إليه مصير المشاركين في حملة أسطول الحرية.
إنما الذي سيحدث عكس ذلك، فالحملة جذبت الانتباه العالمي الآن إلى جريمة الحصار وبشاعتها، ولذا فإن المتوقع أن يزداد ويتسع نطاقها على غرار ما حدث للحملة الدولية المناهضة للحرب الأمريكية ضد العراق.
بالأمس، وتحديداً في 23 أغسطس 2008 نجح 44 متضامناً دولياً ينتمون إلى 17 دولة في ارتياد البحر على متن سفينتين أسموهما ‘غزة حرة’ و’الحرية’ وكسر الحصار الإسرائيلي المفروض على غزة لأول مرة، حيث انطلقت السفينتان من قبرص يوم 22 أغسطس محملتين بالمساعدات الإنسانية، ووصلتا إلى القطاع بعد أن واجهتا تهديدات من الإسرائيليين وألغاماً بحرية زرعوها في طريق إبحار السفينتين فضلاً عن التشويش على أجهزة اتصالات السفينتين قبل أن تغادر القطاع يوم 28 سبتمبر.
هذه المرة ارتفع عدد السفن إلى خمس وكان يمكن أن يكون أكثر، وزاد عدد المشاركين في الحملة إلى حوالي 680 متضامناً، وارتفع عدد الدول التي ينتمون إليها إلى 42 دولة.
بهذا المعنى، وبهذه الإدانات الدولية الواسعة للهجوم الهمجي الإسرائيلي على سفن الإغاثة الإنسانية، وهذا الزخم الإنساني الذي ولدته حملة التضامن الدولية لكسر الحصار الإسرائيلي على غزة، يمكن القول إن الإنسانية إذ تنتفض ضد الفاشية الإسرائيلية المتمادية، فإنها تكون قد هزمت هذه الفاشية أخلاقياً ومعنوياً وسياسياً أيضاً.
صحيفة الوطن
6 مايو 2010